الحمد لله الذي نهج لنا سبيل الرشاد وهدانا بنور القرآن ولم يجعل له عوجا
بل نزله قيِّمًا، مُفصَّلاً بَيِّنًا
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
من تجليات كتاب الله عز وجل أن كل كلمة فيه هي في موضعها، ليس فيه زيادة ولا نقصان ولا يمكن أن تستبدل كلمة مكان كلمة أو تقدم كلمة أو تؤخر، إنه كلام الله تعالى، كلام الحق عز وجل، ليس فيه قصور.
ولأجل أن نرضيه عز وجل يجب أن نحاول أن تكون قراءتنا ليس فيها قصور أيضا، أي يجب أن نتدبر القرآن.
إن التدبر في قراءة القرآن ليس أن نقرأه لنختم الصفحات أو ننهي الأجزاء أو نعد الختمات، بل يجب أن نقف عند الآيات فنتأمل، ونقف عند الجمل فنتدبر، بل يجب أن نقف عند الكلمات فنسمع شيئا جديدا في حروف الكلمات، تفتح لنا الأبواب وتحملنا إلى الآفاق، قال الله تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ﴾*سورة ص-آية 29*.
علينا أن نقرأ القرآن ليس قراءة عدد بل قراءة نوع، قال تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنْ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾*سورة محمد– الآية 24*.
إن للقرآن بركات تتنزَّل بسبب هذه القراءة المتدبرة المتأنية الباحثة عن أوامر الله رب العالمين، الباحثة عن وجوه الإعجاز في كتابه الكريم، قال الله تعالى: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ، فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ *الأنعام – آية 155*، وتتنزَّل هذه البركات إذا صوحبت هذه القراءة بالتقوى، والقراءة المتدبرة هي التي تحرك القلوب للتقوى، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ *سورة الأعراف– آية 96*.
ويروي الترمذي رحمه الله عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ألا إنها ستكون فتنة، قلت وما المخرج منها يا رسول الله، قال: كتاب الله فيه نبأ من قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم… هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله… وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم… هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه… هو الذي لم تنته الجن إذ سمعت به حتى قالت: ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ﴾*سورة الجن- جزء من آية 1 و جزء من آية 2*، من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم)".
فأي كتاب يحمل من الأوصاف ما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الله عز وجل.
إن التدبر في كتاب الله عز وجل هو الذي يقودنا إلى اكتشاف ما فيه من إعجاز
والتحدث عن الإعجاز العلمي إنما هو لتثبيت القلوب. قال الله تعالى ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى. قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ. قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ *سورة البقرة آية 260*. بمعنى لنصل إلى مرتبة اليقين.
وللإعجاز وجوه وعجائب كثيرة تجعل المرء مشدوها أمامها، تحيله على عظمة القرآن الكريم الذي حين تمسكه فإنك تحس أنك تحمل معجزة من معجزات الله عز وجل.
قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ *سورة الأعراف– آية 204*
إن أوجه الإعجاز في القرآن الكريم لا يحصيها إلا الله، وما توصل العلماء إلى تحديده إنما هو قطرة من بحر.
من هذه الأوجه إضافة إلى الإعجاز العلمي، هناك الإعجاز البياني، الإعجاز اللغوي، الإعجاز البلاغي، الإعجاز التصويري الفني، الإعجاز الفكري، الإعجاز التشريعي، الإعجاز المنطقي، الإعجاز التاريخي، الإعجاز الجغرافي، الإعجاز الطبي، الإعجاز العددي، الإعجاز البيئي…
بحيث لا نستطيع أن نقول إلا أن القرآن لم يترك شيئا إلا وأشار إليه، حتى تحدث العلماء وقالوا: ( إن شئت الخياطة فاقرأ ﴿ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَق الْجَنَّةِ ﴾ *سورة طه – جزء من آية 121*، وإن شئت الحدادة فاقرأ ﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ﴾ *سورة سبأ – جزء من آية 10*، وإن شئت البناء ﴿ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ﴾ *سورة الشمس-آية 5*، فالغزل ﴿ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا ﴾*سورة النحل-جزء من آية 92*، فالنسج ﴿ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ﴾*سورة العنكبوت-جزء من آية 41*، والفلاحة ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ﴾*سورة الواقعة-آية 36*، والصياغة ﴿ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا ﴾*الأعراف-جزء من آية 148*، والملاحة ﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ ﴾*الكهف-جزء من آية 79*، والخبز﴿ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا ﴾*سورة يوسف-جزء من آية 36*، والطبخ ﴿ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾*سورة هود-جزء من آيٍة 69* (أي مشوي)، والغسل ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾*سورة المدثر-آية 4*، والنحت ﴿ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ﴾*سورة الشعراء-آية149*، والكتابة ﴿ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴾*سورة العلق-آية 4*…
قال تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾*سورة النحل-جزء من آية 89*.
ويقول السيوطي رحمه الله، أن أنواع العلوم ليس منها باب ولا مسألة هي أصل (يعني الأصول وليست الفروع) إلا وفي القرآن ما يدل عليها.
وإضافة إلى تغطية القرآن لكل هذا، فهو معجز بذاته. فالمعجزة أمر خارق للعادة، شيء لم يتعود عليه الناس، خرق لعادات الناس.
وللمعجزة شروط، أهمها:
أولا: أنها من صنع الله وليست من صنع مخلوق، قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾*سورةالرعد-جزء من آية 38*، فآيات القرآن الكريم ومعجزات كل الأنبياء هي من الله رب العالمين.
ثانيا: سلامتها من المعارضة، أي لا يستطيع أحد أن يعارضها أو أن يأتي بمثلها أو أن ينافسها.
ثالثا: التحدي بها، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يتحدى بالإرهاصات الأخرى (المعجزات التي أوتيت للنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة تسمى إرهاصات) كتكلم الجذع وتسليم الحجر والشجر عليه وغيره، هو تحدى بالقرآن فقط.
رابعا: أن المعجزة تتأخر في دعوى الرسالة، أي تأتي بعد الإعلان عن النبوة لتثبت صدق الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذن، معجزة الإسلام الخالدة هي كتاب الله رب العالمين.
ومن طبيعة المعجزات أنها تأتي لأمر يكون القوم الذين أرسلت إليهم هذه المعجزة قد برعوا فيه، وتأتي من شيء يُحْسِنُونَهُ ومن طبيعة حياتهم، فنجد أن معجزات الأنبياء العرب قبل النبي صلى الله عليه وسلم متوافقة مع بيئتهم العربية، فالنبي صالح عليه السلام كانت معجزته الناقة، وجاءت معجزات موسى عليه السلام من جنس السحر الذي برع فيه المصريون في ذلك العهد، وجاءت معجزات عيسى عليه السلام تتحدى الطب الذي برع فيه أهل زمانه بداية من معجزة ولادته من غير أب ثم نطقه وهو في المهد إلى معجزة إحيائه الموتى.
ومعجزة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم جاءت أيضا موافقة للبيئة التي أرسل إليها. فلقد وصل العرب في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم إلى رُقِيِّ في اللغة لم تصل أي أمة لا قبلهم ولا في زمانهم ولا بعدهم إلى ذلك الرُقي ، وكانوا قد وصلوا بالاعتزاز بلغتهم أنهم قدَّسوا الشعر وسمُّوا أرقى الشعر بالـ"معلقات" التي كانوا يعلقونها على أقدس مكان عندهم وهو "الكعبة" (شرفها الله). كان أحيانا البيت الواحد من الشعر يرفع قبيلة ويخفض أخرى، فكانوا يلعبون بالكلام في شعرهم لَعِبًا لدرجة أنه كان لا يتبين عندهم الهجاء من المديح إلا عند المتقنين.
وشهد على هذا الرسول الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم حين قال: ( إن من البيان لسحرا )، قاله لما سمع شعر"أمية ابن أبي الصلت".
فجاءهم القرآن بأن أعجزهم بأن يأتوا بآية واحدة منه.
ولم يكتفي القرآن بالتحدي اللغوي، وإنما جاء للقرآن خصوصية على كل المعجزات، فمعجزات الأنبياء السابقين جاءت لزمان معين وفي مكان معين، فنحن لم نكن حاضرين حينما شق الله سبحانه وتعالى لموسى البحر، ولم نشهد الناقة تخرج من الصخرة، ولم نرى عيسى عليه السلام يحيي الموتى…
أما القرآن الكريم فقد جاء ليكون معجزة لكل الخلق، عالمية، دائمة، خالدة لكل زمان ومكان. قال الله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾*الأعراف-جزء من آية 158* وقال تعالى: ﴿ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ ﴾*الأعراف-جزء من آية 158*.
أُمِّيٌّ يأتي بهذا الكلام!.
يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم: ( ما من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أُوتيتُ وحيا أوحاه الله إلى، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة).
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيد المرسلين حبيبنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم