ما أكثر التساؤلات التي يطرحها كلُ من يقرأ كتاب الله تعالى..
ومن بين أكثر هذه التساؤلات:
لماذا تتكرر القصة أو معانيها أو خطاباتها في مواضع متعددة من كتاب الله عز وجل؟؟..
وما السر وراء هذا التكرار؟..
ربما تنطلق بنا الأفكار والتساؤلات إلى عدة اتجاهات..
لنحاول إيجاد الأسباب والمسببات لهذا التكرار في أحسن القصص..
ولكن تتمحور الآراء غالبا في حكمتين بالغتين:
أولها.. زيادة العبرة.. وعظة وتذكير المؤمن دائماً بعاقبة المكذبين من الأمم السابقة..
ليبقى في حالة خشية من الله تعالى وخوف من عذابه..
وليبقى في حالة سرور وتفاؤل برحمة الله ووعده وحُسن جزائه ونعيمه..
ثانيها.. استكمال جوانب القصة.. فتُذكرُ القصة مختصرة جداً في موضع، وفي موضع آخر تُذكر مطوَّلة..
وهكذا نجد أن القصة لا تتكرر إنما تتكامل..
ولقد تعلمنا منذ بداياتنا في تركيب المفردات..
أن التكرار لا تستقيم معه التركيبة السليمة للمعاني والجمل..
فـ هل هذا هو الحال في الآيات القرآنية ؟..
أو لنتساءل.. هل نجد في الآيات البينات خللا في الأحداث ؟؟
أو.. تناقضا في سرد القصة ؟؟؟
لا هذا ولا ذاك..
بل..
. معجزة بلاغية.. وجمالية فريدة وروعة وبياناً وسحراً..
لا يمكن لأعظم بلغاء العالم تقليد هذا الأسلوب المميز..
إذن نحن هنا لسنا أمام تكرار بل " إعجاز "!!.
وقد حدثت القصص القرآنية خلال عهود وأزمنة طويلة..
هذه القصص تكرر ذكرها في القرآن..
مثل قصة سيدنا نوح و صالح و إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام..
غير أن هذا التكرار حدث بنظام محكم..
وكذلك الخطاب والأوامر والأحرف والكلمات تكررت..
وهذا التكرار كان النظام هو الحكم الفصل فيه أيضا..
ليس هناك كتاب واحد في العالم يتميز بسرد القصة بتسلسل تاريخي موافق للواقع..
وبتسلسل زمني على مدى دهور وأزمنة كما هو في القرآن الكريم..
وهذا التسلسل المحكم تجلى في أحداث القصص..
من خلال ترتيب السور وترتيب المعاني.. وترتيب الآيات..
وحتى..في ترتيب الكلمات
ولو تتبعنا كل كلمة من كلمات القرآن ودرسنا دلالتها من الناحية اللغوية،
لرأينا نظاماً بديعاً لهذه الكلمات..
ولا نبالغ إذا قلنا أنه في كل كلمة من الآيات البينات.. يوجد هناك معجزة!
ولنتامل بعض أوجه التكرار في قصص القرآن الكريم..
* تكرار الكلمات مع ارتباطها بحدث معين
لناخذ على سبيل المثال.. قصة سيدنا لوط عليه السلام..
عندما طغى قومه وارتكبوا الفواحش بأنواعها أرسل الله إليهم ملائكة العذاب..
وقبل ذهابهم إلى قوم لوط عليهم السلام مروا على سيدنا إبراهيم ليبشروه بالغلام.. فسألهم عن سر مجيئهم..
(فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ) هود: /70
ويتكرر جوابهم في موضع آخر: (قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ) الحجر: /58..
ثم يتكرر هذا الجواب مرة ثالثة..
وفي سياق قصة ثالثة فيقولون: (قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ) الذاريات /32
إذن الموقف يتكرر في كتاب الله ثلاث مرات في ثلاث سور..
وتتكرر الكلمة ذاتها (أُرْسِلْنا) على لسان الملائكة..
إن هذه الكلمة خاصة بهذا الموقف بالذات لم ترد في القرآن كله إلا في هذه المواضع الثلاثة فقط..
ودائماً على لسان ملائكة الله عليهم السلام في جوابهم لسيدنا إبراهيم عليه السلام..
فما رأيكم في هذا الترتيب العجيب للكلمات عبر آيات متباعدة ؟..
كلمة واحدة جاءت في سور ثلاث.. ولكن بنظام محكَم
ونحن قد لا نتمكن من رؤية هذا النظام في كلمة ما..
ولذلك وجب علينا التعمق والتدبر في كلمات القرآن..
حتى نرى هذا النظام الباهر الموجود حتى في الكلمات..
** تكرار الكلمات عبر التسلسل الزمني
ولتبيان هذا نأخذ على سبيل المثال كلمة (علمناه)..
هذه الكلمة تتكرر في القرآن بنظام عجيب..
ففي القرآن كله نجدها في أربع قصص لأربع أنبياء.. وهي:
(وإنه لذو علم لما علّمناه) من سورة يوسف
(وعلَّمناه من لدنَّا علما ً) من سورة الكهف
(وعلَّمناه صنعة لبوس) من سورة الأنبياء
(و ما علَّمناه الشعر) من سورة يس
أربع قصص.. وأربع أنبياء..
فمن هم هؤلاء الأنبياء ؟
وهل يراعي تسلسل هذه الآيات في القرآن تسلسل الأحداث التاريخية لهؤلاء الأنبياء ؟
إن الآية الأولى وردت في سياق قصة سيدنا يوسف عليه السلام..
أما الآية الثانية فقد وردت في سياق قصة سيدنا موسى عليه السلام..
والآية الثالثة وردت في سياق قصة سيدنا داوود عليه السلام..
والآية الرابعة نجدها في سياق الحديث عن سيدنا محمد خاتم النبيين..
هكذا..
فبالرغم من تباعد هذه السور..
فقد بقي تسلسلها مطابقا للتسلسل الزمني لهؤلاء الأنبياء الأربعة..
يوسف فـ موسى فـ داوود فـ حبيبنا المصطفى محمد صلوات الله وسلامه عليهم جميعا
*** تكرار الخطاب
ونأخذ مثالا لـ تكرار الخطاب وما فيه من نظام من قصة إبراهيم عليه السلام..
فهذا خليل الرحمن يبدأ في دعوته للحق بأبيه الذي كان يتخذ آلهة من الأصنام..
فيقول منكراً عليه هذا العمل:
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) الأنعام: /74..
وتتكرر قصة إبراهيم عبر آيات القرآن..
ولكن في موضع آخر يوجه الخطاب إلى أبيه وقومه معاً فيقول:
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ) الشعراء /69 ـ 71
ربما نقرأ مثل هاتين الآيتين في أوقات مختلفة ويذهب إلى خلدنا أنها آيات متشابهات في المعاني..
ولا نتفطن إلى الاختلاف الجذري في الشخصيات الموجه إليها الخطاب..
ولكن حين نتأمل التسلسل الخطابي عبر التسلسل الزمني للآيات..
عندها نعلم أن إبراهيم عليه السلام بدأ بأبيه فوجه إليه الدعوة (في الآية الأولى).. ثم وجهها إلى قومه لاحقا (في الآية الثانية)..
.
**** تكرار الأوصاف
هي حقيقة لغوية بيانية لا نجدها إلا في كتاب الله..
يقول عز وجل في مُحْكَم الذكر عن إبراهيم عليه السلام:
(وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) التوبة/114
ويتكرر هذا الثناء على إبراهيم عليه السلام في سورة أخرى..
يقول تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) هود/75
إن وصف (أواه) في القرآن لم ترد إلا في وصف إبراهيم عليه السلام
وكأن الله تعالى قد خَصَّ كل نبيٍّ بصفات لم يعطها لغيره..
فجاء التكرار ليؤكد ملازمة صفة معينة بذاتها لنبي من الأنبياء..
وهي ليست لغيره..
فهل بعد هذه البلاغة بلاغة..؟ وهل بعد هذا البيان بيان ؟
ومن الأمثلة الرائعة لأسرار التكرار.. مما ورد في الذكر الحكيم..
وفي وصف أقوام بصفات لا يتصف بها غيرهم..
ما جاء في قصة بني إسرائيل وتكرارها في القرآن الكريم..
فلو تأملنا في كلمة (عَصَينا) نجد أنها وردت في موضعين فقط من الذكر الحكيم..
الآية الأولى هي قوله تعالى: (قالوا سمعنا وعصينا) في سورة البقرة
أما الآية الثانية فهي قوله تعالى: (ويقولون سمعنا وعصينا) من سورة النساء.
وفي كلتا الآيتين جاء الحديث عن بني إسرائيل..
فكأن الله عز وجل يقول لنا إن هذه الكلمة (عصينا) هي خاصة ببني إسرائيل..
فالعصيان وإنكار النعمة هي سمة من سمات هؤلاء اليهود الذين عصوا الله وأنكروا نعمه.. وعصوا جميع الرسل..
ولا يزال هنالك الكثير من كلمات القرآن تنتظر من يبحث ويتدبر فيها..
ليرى عجائب القرآن التي لا تنقضي..
وهكذا يحيلنا تساؤل وحيد..
ألا وهو: لماذا التكرار في قصص القرآن ؟..
على العديد من الحقائق.. التي لم ولن تنفذ..
ولن ننتهي من قراءة ما وراء الآيات..
والتي لا يعلم مدى غزارة معانيها إلا الله سبحانه وتعالى..
ماهو التساؤل المطروح اليوم ؟؟..
كلنا يعلم أن القرآن نزل في قوم برعوا بالشعر واللغة..
وأتقنوا فنون الفصاحة والبيان..
فجاءت المعجزة القرآنية لتعجزهم لغوياً وبلاغياً..
حتى قالوا عن القرآن "أنه سحر"..
والإنسان لا يصف شيئاً بالسحر إلا إذا أذهله هذا الشيء وأصبح فوق مستوى تفكيره..
فجاءت البراهين فيه بمثابة الحجة الدامغة لهم.. بأنه ليس قول بشر..
بل هو قول رب البشر سبحانه..
ومن جهة أخرى كلنا نسلم بحقيقة أن القرآن صالح لكل زمان ومكان..
فهل يمكن أن نرد ما يحاول إثباته العلماء من أن هناك حكمة أخرى لتكرار القصة في القرآن الكريم..
ألا وهو الإعجاز الرقمي ؟؟؟..
ألا يمكن القول أن لغة الأرقام هي اللغة الوحيدة التي يتحد على فهمها جميع البشر في هذا العصر..
عصر العلوم والاتصالات الرقمية..
والاختراعات الحديثة والتقنيات والتطورات العلمية ..
عصر الاعتماد أساساً على الرياضيات والأرقام والأنظمة الرقمية..
وحيث يوجد أناس لا يفهمون إلا لغة الأرقام..
هل يمكن أن نقول أن وراء بلاغة الكلمات هناك بلاغة أخرى.. لا تقل بلاغة عن الأولى.. وهي بلاغة الأرقام ؟؟..
ويبقى التساؤل مطروحا !!..
بحثتــه وكتبتــه..
بقلمـــــي..
سلــوى~
بقلمـــــي..
سلــوى~