إنه عالم المخابرات والجاسوسية … ذلك العالم المتوحش الأذرع … غريم الصفاء … والعواطف … الذي لا يقر العلاقات أو الأعراف … أو يضع وزناً للمشاعر … تُسيّجه دائماً قوانين لا تعرف الرحمة … أساسها الكتمان والسرية والجرأة … ووقوده المال والنساء منذ الأزل. وحتى اليوم … وإلى الأبد… فهو عالم التناقضات بشتى جوانبها … الذي يطوي بين أجنحته الأخطبوطية إمبراطوريات وممالك .. ويقيم نظماً … ويدحر جيوشاً وأمماً … ويرسم خرائط سياسية للأطماع والمصالح والنفوذ.
والتجسس فن قديم … لا يمكن لباحث أن يتكهن بتاريخ ظهوره وبايته على وجه الدقة … فقد تواجد منذ خلق الإنسان على وجه الأرض … حيث بدأ صراع الاستحواذ والهيمنة .. وفرض قانون القوة … باستخدام شتى الأساليب المتاحة … وأهمها الجاسوس الذي يرى ويسمع وينقل ويصف … فقد كان هو الأداة الأولى بلا منازع.
وفي القرن العشرين حدثت طفرة هائلة في فن التجسس … قلبت كل النظم القديمة رأساً على عقب … فبظهور التليفون والتلغراف ووسائل المواصلات السريعة… تطورت أجهزة الاستخبارات بما يتناسب وتكنولوجيا التطور التي أذهلت الأدمغة … للسرعة الفائقة في نقل الصور والأخبار والمعلومات خلال لحظات.
ومع انتهاء الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) نشطت أجهزة الاستخبارات بعدما تزودت بالخبرة والحنكة … وشرعت في تنظيم أقسامها الداخلية للوصول إلى أعلى مرتبة من الكفاءة والإجادة … ورصدت لذلك ميزانيات ضخمة … للإنفاق على جيوش من الجواسيس المدربين … الذين انتشروا في كل بقاع الأرض … ولشراء ضعاف النفوس والضمائر … كل هؤلاء يحركهم طابور طويل من الخبراء والعلماء … تفننوا في ابتكار وإنتاج أغرب الوسائل للتغلغل … والتنصت … وتلقط الأخبار … ومغافلة الأجهزة المضادة.
ففي تطور لم يسبق له مثيل … ظهرت آلات التصوير الدقيقة التي بحجم الخاتم… وكذلك أجهزة اللاسلكي ذات المدى البعيد والفاعلية العالية … وأجهزة التنصت المعقدة … وأدوات التمويه والتخفي السرية التي تستحدث أولاً بأول لتخدم أجهزة الاستخبارات … وتعمل على تفوقها وسلامة عملائها.
تغيرت أيضاً نظريات التجسس … التي اهتمت قديماً بالشؤون العسكرية في المقام الأول … إذ اتسعت دائرة التحليل الاستراتيجي والتسلح … وشملت الأمور الاقتصادية والاجتماعية والفنية والعلمية والزراعية … الخ… فكلها تشكل قاعدة هامة … وتصب في النهاية كماً هائلاً من المعلومات الحيوية… تتضح بتحليلها أسرار شائكة تمثل منظومة معلوماتية متكاملة.
وفي النصف الأخير من القرن العشرين … طورت أجهزة الاستخبارات في سباق محموم للتمييز والتفوق … وظهرت طائرات التجسس … وسفن التجسس… ثم أقمار التجسس التي أحدثت نقلة أسطورية في عالم الجاسوسية لدى الدول الكبرى … استلزمت بالتالي دقة متناهية في التمويه اتبعتها الدول الأقل تطوراً … التي لجأت إلى أساليب تمويهية وخداعية تصل إلى حد الإعجاز… كما حدث في حرب أكتوبر 1973 على سبيل المثال.
بيد أنه بالرغم من كل تلك الوسائل التكنولوجية المعقدة … يقول خبراء الاستخبارات إنه لا يمكن الاستغناء عن الجاسوس … فأجهزة الاستخبارات تتحصل على 90% من المعلومات بواسطة التنصت وأقمار التجسس … وشتى الأجهزة المزروعة، و 5% عن طريق وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة … بقيت إذن 5% من المعلومات السرية التي لا يمكن الحصول عليها …لك … يجند الجواسيس لأجل تلك النسبة المجهولة ث تكمن أدق المعلومات وأخطرها .
وبينما كان الصراع على أشده بين الشرق والغرب … بين حلف وارسو وحلف شمال الأطلسي … كان في الشرق الأوسط أيضاً صراع أشد قوة وحدة وعدائية بين العرب وإسرائيل… العرب يريدون دجر إسرائيل التي زرعها الاستعمتعمار في قلب الوطن العربي … تشبثت بالأرض… وتنتهج سياسة المجازر والعدوان … وتنتهك كل القوانين والأعراف الدولية في وقاحة .
العرب كانوا يتسلحون بأسلحة الكتلة الشرقية … ويزود الغرب إسرائيل بالسلاح ويساندها في المحافل الدولية.
فاشتعل الصراع … وتأججت الحروب السرية بين المخابرات العربية والإسرائيلية … وكانت بلا شك حروب شديدة الدهاء … موجعة الضربات … تقودها أدمغة ذكية تخطط … وتدفع بمئات الجواسيس إلى أتون المعركة … يتحسسون نقاط الضعف والقوة … ويحصدون المعلومات حصداً … .
ونظراً لظروف الاحتلال الأجنبي والاستعمار الطويل … نشأت المخابرات العربية حديثاً في منتصف الخمسينيات … وفي غضون سنوات لا تذكر … استطاعت أن تبني قواعد عملها منذ اللبنة الأولى … ودربت كوادرها المنتقاة بعناية ومن أكفأ رجالاتها … وانخرطت في حرب ضروس مع مخابرات العدو الغاصب .
وبعبقرية فذة .. قامت المخابرات المصرية بعمليات جريئة لن يغفلها التاريخ … عمليات طالت مصالح العدو في الخارج … وداخل الدولة الصهيونية نفسها … ووصلت تلك العمليات إلى حد الكفاءة الماهرة والاقتدار … عندما فجر رجال مخابراتنا البواسل سفن العدو الحربية … الرابضة في ميناء "إيلات" الإسرائيلي … وإغراق المدمرة "إيلات" في البحر المتوسط قبالة سواحل بورسعيد … وتفجير الحفار الإسرائيلي في ميناء "أبيدجان"… وزرع رأفت الهجان لعشرين عاماً في تل أبيب … وتجنيد العديد من ضباط اليهود أنفسهم في إسرائيل … أشهرهم الكسندر بولين .. وإسرائيل بيير … ومردخاي كيدار .. وأولريتش شنيفت … ومئات العمليات السرية التي لم يكشف عنها النقاب بعد … كلها عمليات خارقة أربكت الدولة العبرية … وزلزلت جهاز مخابراتها الذي روجت الإشاعات حوله … ونعت بالأسطورة التي لا تقهر …
التوقيع: