نكمل رسالة تحكيم القوانين للشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى يقول الشيخ:
وقال تعالى: {وأنِ احْكُمْ بَيْنهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ واحْذَرْهُم أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إليك}. وقال تعالى مُخيرا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، بين الحُكم بين اليهود والإعراض عنهم إنْ جاءُوه لذلك: {فَإنْ جاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُم أوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وإنْ تَعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وإنْ حَكَمْتَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطينَ}. والقسط هو: العدل ولا عدل حقا إلاّ حُكم الله ورسوله، والحكم بخلافه هو الجور، والظلم والضلال والكفر والفسوق، ولهذا قال تعالى بعد ذلك: {ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرون} {ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظالِمُون} {ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقون}
هنا ذكر رحمه الله تعالى بعض الآيات الدالة على وجوب الحكم بما أنزل الله..
وهي تدل جميعها أنه لا يجوز لأحد أن يحكم إلا بما أنزل الله..أما
الآية .. {فَإنْ جاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُم أوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وإنْ تَعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وإنْ حَكَمْتَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطينَ}…
وللعلماء فيها قولين..
منهم من قال أن الله تعالى خير نبيه في أول الآيات ثم نسخ ذلك التخيير بقوله {وأن احكم بينهم بما أنزل الله}..فلا تخيير في الآية..
ومنهم من يقول ليس في الآيات نسخ وإنما المقصود بالآيات الأولى أناس وبالثانية أناس ..فالذين خير عليه الصلاة والسلام في الحكم بينهم أو الإعراض عن ذلك أقوام لم يكونوا تحت سلطته كما هي الحال في يهود خيبر فإنهم لم يكونوا تحت سلطته قبل أن يفتحها..وبالأخرى أقوام آخرين ممن كانوا تحت سلطته كيهود بني قريظة الذين كانوا في المدينة..
وذكر العلماء أن هذا القول أقوى وأصح..
فيتبين من تلك الآيات أن من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر فاسق ظالم..كما ذكر سبحانه وسيأتي التفصيل..
يقول : فانظر كيف سجّل تعالى على الحاكمين بغير ما أنزل اللهُ الكفرَ والظلمَ والفسوقَ، ومِن الممتنع أنْ يُسمِّي اللهُ سبحانه الحاكمَ بغير ما أنزل اللهُ كافرًا ولا يكون كافرًا ، بل هوكافرٌ مطلقًا، إمّا كفر عمل وإما كفر اعتقاد، وما جاء عن ابن عباس – رضي الله عنهما – في تفسير هذه الآية من رواية طاووس وغيره يدلُّ أنّ الحاكم بغير ما أنزل اللهُ كافرٌ إمّا كفرُ اعتقادٍ ناقلٌ عن الملّة، وإمّا كفرُ عملٍ لا ينقلُ عن الملّة.
أمّا الأول: وهو كفر الاعتقاد فهو أنواع:
قسم الشيخ الكفر إلى كفر اعتقاد وكفر عمل..
ثم بدأ بالحديث عن كفر الاعتقاد وهذا النوع ناقل عن الملة يخرج من الإسلام إلى الكفر..ثم بين بقوله..
(فهو أنواع ؛ أحدها: أن يجحد الحاكمُ بغير ما أنزل الله أحقيّة حُكمِ الله ورسوله)
ذكر أن لكفر الاعتقاد عدة أنواع وبدأ بذكر النوع الأول..
وهو أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل وجوب ذلك..فيقول مثلا لا يجب على الناس أن يتحاكموا إلى الشرع بل هم أحرار أن يتحاكموا إليه إن شاءوا ويتركوه إن أرادوا..فهو هنا كمن يجحد وجوب الصلاة أو الزكاة أو نحوها لأنه أنكر معلوما من الدين بالضرورة وهذا الحكم عليه بالكفر مجمع عليه من أهل العلم ولم يخالف فيه أحد..
وهو المقصود فيما روي عن ابن عباس وطاووس في تفسيره للآية..كما قال الشيخ:
(وهو معنى ما رُوي عن ابن عباس، واختاره ابن جرير أنّ ذلك هو جحودُ ما أنزل اللهُ من الحُكم الشرعي..وهذا ما لا نزاع فيه بين أهل العلم)..
ثم قال الشيخ : (فإنّ الأصول المتقررة المتّفق عليها بينهم أنّ مَنْ جَحَدَ أصلاً من أصول الدين أو فرعًا مُجمعًا عليه، أو أنكر حرفًا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، قطعيًّا، فإنّه كافر الكفرَ الناقل عن الملّة)
طبعا هذا الكلام ينطبق على المسلمين ..لأن الكفار أصلا لا يقرون بالإسلام ولا يدينون به..فكيف نقول أنهم أنكروا أصل من أصول الدين أو فرع مجمع عليه!!..فهم أصلا ينكرون الدين كله..ولكن كلام الشيخ ينطبق على المسلمين سواء جاهر أحدهم بإنكار الحكم بما أنزل الله بلسانه علنا..أو كان واقع حاله يقول بذلك..كمن يقول بأن العصر تغير وأن الدنيا تغيرت وانفتح العالم على بعضه..فما ينفع الآن ..فالعالم أسرة واحدة ..ولا بد أن نوجد قوانين جديدة وحديثة تناسب العصر..فهذا كفر مخرج عن الملة..
يقول:
الثاني: أنْ لا يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله كونَ حُكم اللهِ ورسولِهِ حقًّا. لكن اعتقد أنّ حُكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسنُ من حُكمه، وأتمّ وأشمل.. لما يحتاجه الناسُ من الحُكم بينهم عند التنازع
هنا ذكر النوع الثاني وهو يختلف عن الأول ..حيث الأول ينكر الحكم أصلا..بينما الثاني يقره ويقول نعم الحكم بما أنزل الله جيد ولكن هناك ما هو أحسن منه!!..فهو يكفر أيضا مثل الأول..
(إما مطلقا أو بالنسبة إلى ما استجدّ من الحوادث التي نشأت عن تطوّر الزمان وتغير الأحوال)
"مطلقا"..يعني هناك من الأحكام والقوانين الحديثة ما هو أحسن من حكم الله ورسوله في كل شيء..
"أو بالنسبة لما استجد…….الخ"..
يعني البعض الآخر يقولون ..لا !..حكم الله ورسوله في كذا وكذا أحسن كالأحوال الشخصية مثلا من زواج وطلاق وعدة…وغيرها..ولكن!! في السياسة و أنظمة العمال والتجارة والقوانين المدنية هناك ما هو أفضل من حكم الله ورسوله..
فكلاهما يكفر ..من قال هناك ما هو أحسن منه في كل شيء.. ومن قال هناك ما هو أحسن في كذا وكذا(بعض الأشياء فقط)..كما قال الشيخ:
(وهذا أيضًا لا ريب أنه كفرٌ، لتفضيله أحكامَ المخلوقين التي هي محضُ زبالةِ الأذهان، وصرْفُ حُثالة الأفكار، على حُكم الحكيم الحميد )
ثم يقول:
وحُكمُ اللهِ ورسولِه لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان، وتطور الأحوال، وتجدّد الحوادث، فإنّه ما من قضية كائنة ما كانت إلاّ وحُكمها في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نصًّا أو ظاهرًا أو استنباطًا أو غير ذلك ، عَلِمَ ذلك مَن علمه وجَهِلَه مَن جهله
نعم فحكم الله صالح لكل زمان ومكان والكتاب وسنة جاءا بكل الأحكام التي تخص الخلق في جميع شؤون حياتهم إما بالنص الصريح كما ذكر الشيخ..كآيات الأحكام في الصلاة والزكاة والصوم وغيرها وآيات الربا ونحو ذلك..
أو "ظاهرا" فالنص لا يحتمل إلا دلالة واحدة بينما "الظاهر " يحتمل أكثر من دلالة ولذا تختلف اجتهادات العلماء ويوفق الله من شاء للصواب..وهو مجال للاجتهاد ويؤجر العالم فيه على اجتهاده بين أجر وأجرين..
أو "استنباطا" باستنباط الأحكام من هذا الكتاب العظيم ..فيستنبط منه العلماء أحكام ما يستجد وهذا من رحمة الله تعالى لهذه الأمة ..فهذا الكتاب العظيم صالح لكل زمان ومكان ..
نكمل في المرات القادمة إن شاء الله،،
والله تعالى أجل وأعلم..
التصنيفات