و الآن .. ماذا .. انتهى كل شئ؟! هل أنت جاد .. قل لى أن سنواتى التى عشتها معك لم تضع هدراً.. فانا قضيتها معك لحظة بلحظة .. وكل لحظة منها ملكت علىَّ قوة احتلت بها مكانا خاصا فى قلبى لا ينازعها فيه احد .. أتدرى ما معنى هذا؟ .. أى أن قلبى أصبح مقسماً إلى ملايين الجزر المنعزلة .. تحتل كل كلمة قلتها لك أو سمعتها منك جزيرة منه .. إن قلبى مدينة وقعت تحت قبضة حُبى لك .. أتعلم ماذا فعلت بها أيامى التى قضيتها تحت أسرك؟ .. لقد صَبغتها بلونك.. سلبتها ثقافتها الخاصة ولغتها الخاصة وزيها الخاص .. لتجعلها مدينة ترفع علمك أنت وترتدى ملامحك وتتحدث بعباراتك..
هل أنت جاد؟! ألن افتح بابى ثانية لأجدك داخلاً علىّ، ابتسامتك تسبق خطوة قدمك .. أحمل عنك ما تحمله يداك .. وتحمل عنى ما يئن به قلبى من همى وهمك وهم أطفالنا .. أطفالنا؟! ..لا تقل لى انك ستحرمهم هم أيضا من رؤيتك .. ألن يستيقظوا على صوتك تحثهم على النهوض و الذهاب لمدارسهم…
لا .. هذا كثير .. أتوسل إليك أن تأتيهم ولو فى الحلم…
يا الهى .. هل أصابنى الجنون .. لقد مات .. ولم يعد ممكنا أن يحدث شئ من هذا.. ثم كيف أناديه الآن وأنا التى قتلته.. لم اقتله حقيقة .. ولكنى قتلته بداخلى.. قطعت الجزء الخاص به من كل صورنا معاً .. أعطيت ملابسه للبواب.. تخلصت من السيارة التى كانت تجمعنا واشتريت واحدة جديدة حتى لا يذكرنى مقعده الخالى بجوارى به، وبكم كان يخشى القيادة فأتولاها أنا عنه.. شطبت أكلاته المفضلة من قائمة طعامنا، ولأنه كان يحب الطعام من يدى .. توقفت عن الطبخ وأحضرت خادمة.. استبدلت ألوان ملابسى الغامقة التى كان يحبها بملابس ينتقدنى أهل الحى لسطوع ألوانها..
قولوا له هو إذا أن عمرنا لم يعد يحتمل ألوان الشباب الزاهية .. ما من احد عابه عندما تزوج علىّ .. ورمونى أنا بكل العيوب عندما قررت أن اخلع ثوب الزوجة المغلوبة على أمرها .. هل كانوا يريدون منى أن ادفن ما تبقى لى من عمر فى التراب الذى خلفته خطواته التى أخذته بعيداً عنى.. أو لا يكفينى أنى …
آاه .. يا الهى .. لقد عادت إلى كلماتى الغاضبة مرة أخرى …
فلأبدأ من جديد…
ما أنا إلا زوجة تركها زوجها و "مات" .. نعم مات .. لا خانها .. ولا تزوج عليها .. ولا رماها وأطفالها ليلحق بالقطار المغادر آخر محطات العُمر .. رماها فى اقرب سلة مهملات وجدها أمامه فى المحطة .. مثل تذكرة سفر استُنفذت صلاحيتها أو علبه حلوى انتهت مهمتها بانتهاء الرحلة…
لا تقولوا لى انه حى .. لقد مات .. وهكذا فقط يظل حياً عندى .. فموته يخلصه من عيوب البشر .. يرحمه ويرحمنى من لعنه غدره بى .. فلا حلول وسط بين الحياة و الموت .. والحياة هى أن تحيا وتحب وتُخلص .. أن تتزوج وتنجب وتسكن لبيتك ولزوجتك وأولادك.. أما الكراهية و الخيانة و الخداع.. وحياة العصفور الذى يُغرد فوق كل شجرة قليلا ليتركها لغيرها فهى ليست بحياة .. تلك النحلة التى تمضى بين الزهور لتستنزف رحيقها الغالى ثم تمضى دون أى شعور بالذنب؛ مصيرها الوحيد هو الموت بعد أن تغرق فى عسلها المزعوم والذى لا يكون لها فى النهاية وإنما لتلك المرأة الخبيثة التى جاءت ببرود حسناوات هذا الزمن الغارق فى كل مشاكل المادة التى عاشها الإنسان منذ بدء خلقه لتحصد ثمرة غرسى وغرسه .. جاءت بقوة بدن وحماقة عقل فتاة فى العشرينيات لتضغط على ضعفٍ وتتنكر لحكمة خلفتهما سنين وسنين من التعب و العمل وحمل الهم من الصباح حتى المساء…
أفلا يجعله كل هذا رجل ميت؟!…
لماذا لامونى أهله إذا عندما أخذت أمواله وممتلكاته التى كانت تحت سيطرتى وحولتها لاسمى .. أليست هذه الأموال فى حكم التركة الآن؟.. وألست أنا وريثته الشرعية؟..
لماذا يعتبروننى أخطئت عندما أعطيت سر صفقاته الأخيرة لابن عمى .. أليس هو الأحق بها من الأغراب بعد وفاة زوجى…
وهذا الرجل الغريب الذى يريدوننى أن ادخله على أبنائى ليراهم.. لما يراهم؟ يقولون انه أبيهم .. لا .. لقد مات أبوهم.. ولا حق لأى شخص آخر لدى ليطلبه .. ما هذه الطريقة التى اتبعها؟! إنها طريقتى أنا.. وسأتمسك بها حتى وان لم يفهمها أولئك الذين يطالبوننى بالوفاء لما كان بيننا يوما.. إنها طريقتى فى الوفاء.. فالوفاء له ألف طريقة.. أسهلها الاحتفاظ بالذكريات المشتركة.. وهى فى حالتى طريقة غير مجدية .. فانا إذا استحضرت فى ذهنى ما كان لى فيه فسيأتينى فقط ليقول لى انه صار لامرأة أخرى .. ستغيظنى ضحكاته لأنها لم تعد على دعاباتى، كما ستغيظنى دموعه التى لم تعد تنزل حزناً على آلامى وآهاتى..
ومن هنا كانت طريقتى فى الوفاء هى ألا احتفظ بأى شئ يربطنى به … حتى يبقى فى ذهنى كان يجب أن يكون مجرد صورة باهتة لماضٍ بعيد.. رجل عرفته.. شاركته لحظات.. سكنتنى نعم.. ولكنها لحظات لا أكثر.. عشناها فى زمان كان يدخل علىّ فيه بابتسامة تسبق خطواته لأحمل عنه ما تحمله يداه ويحمل عنى همى وهمه وهم أطفالنا.. ولكنه مات .. لم تدم به الحياة ليرى أطفالنا وقد كبروا .. خطفه " الموت " لا "امرأه أخرى".. هكذا تبدو الحقيقة أفضل، وهكذا يكون الأمر أكثر وضوحا للعقل وأقل وقوعا على القلب…
وهكذا بذكرياتنا الحلوة القليلة الباقية غلّفت مرارة العيش بعده .. وبلعتها.. تماما كما يفعل صناع الدواء.