التصنيفات
الملتقى الحواري

من آثار السلف في الحث على التأدّب

عن أيوب بن سويد قال : سمعت الثوري يقول : " كان يقال : حسن الأدب يطفئ غضب الرب عز وجل ".(الحلية 7/79) .
وقال البوشنجي : " من أراد العلم والفقه بغير أدب ، فقد اقتحم أن يكذب على الله ورسوله " .(نزهة الفضلاء 2/1006) .
وقال عبد الله بن المبارك : " من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن ، ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض ، ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة ".(مدارج السالكين 2/381) .
وقال رُوَيْم بن أحمد البغدادي لابنه : " يا بُني اجعل عملك مِلْحـًا ، وأدبَك دقيقـًا ".(الفروق ، للقرافي 3/96) ، أي : استكثر من الأدب حتى تكون نسبتُه في سلوكك من حيث الكثرةُ كنسبة الدقيق إلى الملح الذي يوضع فيه ، فمعنى عبارة رويم : أن الإكثار من الأدب في العمل القليل ، خير من العمل الكثير الخاوي عن الأدب .
وقال الإمام الخطيب البغدادي – رحمه الله تعالى – : " والواجب أن يكون طلبة الحديث أكمل الناس أدبـًا ، وأشد الخلق تواضعـًا ، وأعظمهم نزاهة وتديُّنـًا ، وأقلهم طيشـًا وغضبـًا ، لدوام قرع أسماعهم بالأخبار المشتملة على محاسن أخلاق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وآدابه ، وسيرة السلف الأخيار من أهل بيته وأصحابه ، وطرائق المحدثين ، ومآثر الماضين ، فأخذوا بأجملها وأحسنها، ويصدفوا عن أرذلها وأونها ".(الجامع لآداب الراوي والسامع 1/78) .
وقال أيضـًا – رحمه الله – : " ينبغي لطالب الحديث أن يتميز في عامة أموره عن طرائق القوم باستعمال آثار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتوظيف السنن على نفسه ، فإن الله تعالى يقول : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ )( الأحزاب:21 ) .
وعن سفيان بن عيينة أنه كان يقول : " إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هو الميزان الأكبر ، فعليه تُعرض الأشياء ، على خُلُقه وسيرته وهَدْيه ، فما وافقها فهو الحق ، وما خالفها فهو الباطل " .
وعن ابن شهاب قال : " إن هذا العلم أدبُ الله الذي أدَّب به نبيه – صلى الله عليه وسلم – ، وأدَّب النبي – صلى الله عليه وسلم – أمته ، أمانةُ الله إلى رسوله ، ليؤديه على ما أدَّى إليه ، فمن سمع علمـًا فليجعله أمامه حجة فيما بينه وبين الله عز وجل " .
وعن ابن وهب قال : سمعت مالكـًا يقول : " إن حقـًا على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية ، وأن يكون مُتَّبِعـًا لأثَرِ مَنْ مضى قبله " .
وعن ثابت بن محمد قال : سمعت الثوري يقول : " إن استطعت ألا تحُكَّ رأسك إلا بأثر فافعل " .
ولهذا قال سبحانه وتعالى : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى )( لنجم:12 ) ، أي ما كذَب الفؤاد ما رآه ببصره .
ولهذا قرأها أبو جعفر " ما كذَّب الفؤاد ما رأى " – بتشديد الذال – أي لم يكذّب الفؤاد البصر ، بل صدقه وواطأه ، فلمواطأة قلبه لقالَبه ، وظاهره لباطنه ، وبصره لبصيرته ، لم يكذب الفؤاد البصر ، ولم يتجاوز البصر حَدَّه فيطغى ، ولم يمل عن المرئي فيزيغ ؛ بل اعتدل البصر نحو المرئي ، ما جاوزه ولا مال عنه ، كما اعتدل القلب في الإقبال على الله تعالى ، والإعراض عما سواه ، فإنه أقبل على الله تعالى بكليته ، وللقلب زيغ وطغيان ، كما للبصر زيغ وطغيان ، وكلاهما منتفٍ عن قلبه وبصره ، فلم يزغ قلبه التفاتـًا عن الله إلى غيره ، ولم يطغ بمجاوزته مقامه الذي أقيم فيه ، وهذا غاية الكمال والأدب مع الله الذي لا يلحقه فيه سواه .
فإن عادة النفوس إذا أقيمت في مقام عالٍ رفيع ، أن تتطلع إلى ما هو أعلى منه وفوقه ، ألا ترى أن موسى – صلى الله عليه وسلم – لما أقيم في مقام التكلم والمناجاة ؛ طلبت نفسه الرؤية ؟ ونبينا – صلى الله عليه وسلم – في ذلك المقام ؛ وفاه حقه ، فلم يلتفت بصره ولا قلبه إلى غير ما أقيم فيه ألبتة ؟
ولأجل هذا ما عاقه عائق ، ولا وقف به مراد ، حتى جاوز السماوات السبع حتى عاتب موسى ربه فيه ، وقال : " يقول بنو إسرائيل : إني كريم الخلق على الله ، وهذا قد جاوزني وخلَّفني علوًا ، فلو أنه وحده ؟ ولكن معه كل أمته " .
وفي رواية للبخاري : ((فلما جاوزته بكى ، قيل : ما يبكيك ؟ قال : أبكي أن غلامـًا بُعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي " ، ثم جاوزه علوًا فلم تعقه إدارة ، ولم تقف به دون كمال العبودية همة .
ولهذا كان مركوبه في مَسْراه يسبق خطوُه الطرفَ ، فيضع قدمه عند منتهى طرفه ، مشاكلاً لحال راكبه ، وبُعْدِ شأوه ، الذي سبق العالم أجمع في سيره ، فكان قدم البراق لا يختلف عن موضع نظره ، كما كان قدمه – صلى الله عليه وسلم – لا يتأخر عن محل معرفته .
فلم يزل – صلى الله عليه وسلم – في خفارة كمال أدبه مع الله سبحانه ، وتكميل مراتب عبوديته له ، حتى خرق حجب السماوات ، وجاوز السبع الطباق ، وجاوز سدرة المنتهى ، ووصل إلى محلَّ من القرب سبق به الأولين والآخرين ، فانصبَّت إليه هناك أقسام القُرَب انصبابـًا ، وانقشعت عنه سحائب الحجب ظاهرًا وباطنـًا حجابـًا حجابـًا ، وأقيم مقامـًا غبطه به الأنبياء والمرسلون ، فإذا كان في المعاد أقيم مقامـًا من القرب ثانيـًا ، يغبطه به الأولون والآخرون ، واستقام هناك على صراط مستقيم من كمال أدبه مع الله تعالى ، وما زاغ البصر عنه وما طغى ، فأقامه في هذا العالم على أقوم صراط من الحق والهدى ، وأقسم كلامه على ذلك في الذكر الحكيم ، فقال تعالى : ( يـس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )( يـس:1 – 4 ) ، فإذا كان يوم المعاد أقامه على الصراط يسأله السلامة لأتباعه وأهل سنته ، حتى يجوزونه إلى جنات النعيم ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم " .

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هناسبحان الله و بحمده

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.