الحجرات المقفلة
رياح الصَبا تلامس شعري المنسدل على كتفي .. و عبر نافذتي رأيت الغيوم تسير بخفة ، تبزغ من بينها أشعة الشمس التي أشرقت بنور ربها ، الأرض قد اعشوشبت بجمال إلهي وتلك الأشجار تتراقص بلطف وكأن الكائنات تغني لها ، فهذه الطيور تشدو وتلك القطة لها مواء يثير حناني و تيك قطرات الندى تسقط على علبة العصير الفارغة فتنبعث منها فرقعة يطيب لي سماعها ..
أصوات تنفرد الطبيعة بروعتها ، قد يعكرها ضجيج السيارات ..
أخذت أرشف فنجان الشاي التي تتصاعد أبخرته ..
ففوجئت بدخول الخادمة الشرق آسيوية جولي بكل جراءة وكأنها صاحبة المكان ، نظرت إليها بنظرة تساؤل مع غضب ..
-ما طريقة الدخول هذه ؟!
أجابت على سؤال عيناي وكلها إحراج كأنما صنعت منه :
– أعتذر .. كنت أرغب في تنظيف الغرفة اعتقدها خالية
أخذت تنظف ..ثم ألقت بطرفها إلىَ وقالت :
– لم لم تذهبي للمدرسة ؟
قلت بكل ثقة :
– لم تأتي الحافلة بعد ..
– قالت في عجل :بل أتت وقبل أن أدخل ، وقد طال انتظارها ..
وضعت فنجان الشاي ، نظرت لساعة يدي ..
– لقد جاوزت السابعة ولم أشعر بذلك ، لماذا لم تخبرني عنها ؟
وقبل أن تجيب ..
أسرعت لغرفة أخي لعلي أجده لأذهب معه ..
طرقت باب الغرفة ولم أسمع جواباً ، أيقنت حينها أنه قد غدا
– ربما قدر لي اليوم أن أتغيب… خير بإذن الله ..
رجعت وكلي يأس، ألقيت حقبتي على سريري فسقطت أرضاً و انتشرت الكتب حولها وكأنها اللؤلؤ يتناثر من العقد، تثاقلت عن حملها..
فتركتها وعدت حيث كنت أرشف فنجان الشاي، أتأمل بديع الخلق الذي سلب عقلي..
– سبحان الله والحمد الله !
أخذت جولي تجمع الكتب وترتبها ، و أنا أراقبها بنظراتي العفوية ..
تعجبت ملامح وجهها كأنها تنتظر متى سأحمل حبيبتاي عنها ..
فتداركت الوضع بسؤال فضولي وليد لحظته :
– جولي .. أأنتِ متزوجة ؟
ضحكت و أحنت وجهها خجلاً ..
– نعم متزوجة …
– كم عمرك حين تزوجتي وكيف كان زواجك ؟
وضعت الكتب في الحقيبة وقالت وهي متعطشة لتحدث :
– كان زوجي صديقاً لأخي ، خطبني بعد أن رآني ، فقبلته لأنه كان ذا خلق ، و كنت حينها في التاسعة عشر من عمري .
أخذت تمسح مكتبي على غير العادة وكأنها تريد أسئلة أخرى ، جاريتها في رضا وقلت :
– هل رزقتي من هذا الزواج بهدية …
ردت :نعم لقد رزقني الله ولداً..أمارا ..
– سألتها : ألا تشتاقين إليه وتودين رؤيته ؟
– أجابت : لا أعتقد أن أي أم كانت مثلي في اشتياقها لابنها ، فكيف لا أشتاق لرؤيته ، وأنا لا أرى دنياي إلا بعينه ؟
مسكينة جولي .. غزار الدموع في عينيها …
– يا لي من حمقاء ، ماذا فعلت بها ؟
* * * * *
الدموع نهال من عينيها وكأنها المطر ، ضعف لساني عن قول أي كلمة أمام قوة تلك الدموع الحارة ، أدركت أن جولي تخفي أشياء خلف دموعها ، لأنها مازالت تبكي على أمارا الحبيب و أنا أقف صامدة أمام الموقف الأليم
(وفاة أبي ) بلا دموع ..
قالت و وجهها ينطق بؤساً :
-لقد فتحتي أبواب تعبت في غلقها ، كنا أنا وزوجي مقتدران ،لم ننوي يوماً السفر من أجل المال ، أمنا لأمارا كل ما يحتاجه حتى أن أبناء الحي كانوا يغبطونه على ذلك ، والشقي آتين الذي يكبر ابني بثلاث سنوات يستغله ويوقعه في المشاكل والمصائب .
فاتحت نور الدين بموضوع آتين وقلت له بأن أمارا طفل صغير و آتين ولد ساذج يدخل في عراك مع الآخرين ، فينالون من ابني ضريبة أنه ابن عم آتين ، إلى متى ونحن نداوي جراح ابننا ؟
رد علي برده الدائم :
– آتين ابن عم أمارا فهو سنده أمام الأشرار فيعلمه القوة والشجاعة ، فأرى أنه لا بأس من أن يرافقا بعضيهما .
– نور الدين .. تعبت من هذا الكلام والرد عليه ..( آآآآآه ). إلى متى وأنت تكرر ه على مسامعي ، أنا لا أرغب بذهاب أبني مع آتين للمدرسة لأنه . .لأنه ..
أمسكت فمي حينما اتسعت عينا زوجي غضباً .
وعلى إثر ذلك دخل أمارا يجر حقيبة المدرسة والدماء تنزف من أنفه ، يمشي في ذل بملابس ممزقة ..
أسرعت إليه عَدواً ..
– ما هذا، ماذا حدث يا بني ؟
– أجابني :النصراني الكافر .. نيثن وأصحابه ضربوني ..
-صرخت به : لماذا لم تدافع عن نفسك ؟
– حاولت .. لكن لا جدوى هم أقوى ..
-أنت مسلم وأنت الأقوى بالله … أين آتين ؟
– لا أعلم هريت وهو مازال يعاركهم .
نظر إلىَ نور الدين نظرة انتصار وقال :
-رايتي أن آتين يدافع عن ابنك و أبنك جبان هارب ,,
– قاطعته : لو بحثت في لب الحادثة لعرفت أن آتين هو السبب .
-فقال لأمارا : ما سبب العراك يا بني ؟
-سرق أطفال النصارى مصروفي الذي وعدت آتين أن اشتري له به قلم.
ضحك الأب في برود وولى مدبراً…
قلت لأمارا..
-بني ..حذاري أن تتكلم مع آتين يوما وإياك أن أراه معك ..
-بني ..حذاري أن تتكلم مع آتين يوما وإياك أن أراه معك ..
عاد زوجي حاملاً في يده تذاكر سفر ..
– فقال : لك و لي و لأمارا ..
ابتسمت ..
– إلى أين ؟
– ليس من طبعك استباق الأحداث .. وعجيب أمركِ لم تسأليني عن التذكرة الرابعة ..
– فقلت : لمن ؟
– فقال : لآتين ..
هتفت به .. لقد أثرت غيظي ..
– فهدأني قائلاً :جولي … أشعر بك لكنني أتدارك الوحدانية التي يعشها ابننا
فعتبري آتين ابنك ..
-أجبته : وكأنك تفر من القدر ولد واحد و الحمد الله غيرنا لم يرزق بأحد ..
-فرد : نحن لا نفر من قدرنا بل نواجه الواقع بحكمه .. احزمي الأمتعة الرحلة بعد ساعات إلى آتشيه حيث العاصمة باندا آتشيه سنذهب للجدة ..
*****
قادتني قدماي وبدون شعور إلى غرفتي .. أخذت أجمع ما نحتاجه خلال هذان اليومان من أكسية وغيرها وكلي سرور ..
قطع الهاتف حديث جولي فأسرعت اليه إذا بالمعلمة تتساءل عن سبب غيابي أخبرتها عن المانع باختصار رغبة في سماع حديث جولي ، أغلقت السماعة ، ونظرت لجولي بغية أن تكمل …
استطردت :
– ما أروعها من مفاجئة ، رحلة إلى باندا آتشيه تلك الديار التي تحمل ذكريات الصِبا ، حقاً لها سواحل سيئة لكن لا تعني سوء المقاطعة كلها فأرضها إسلامية طاهرة ….
دخلنا المدينة حيث الجمال البديعي .. والروعة الإلهية ..
كنت في شوق عظيم للجدة وحكاياتها التاريخية المثيرة …
وآصلنا رحلتنا بالسيارة لنصل القرية التي تقطن فيها الجدة ..
فعلى غير علمها دخلنا الدار ، فذهلت بأمارا أمامها يقدم لها هدية صغيرة أبى إلا أن يعطيها ، ضمته إلى صدرها بكل حب ..
ثم صنعت الشاي الأخضر وقدمته لنا وهي تتحدث عن تعبها في قطفه ن وأخذت تعلمنا أسليب القطف السليمة ..
وبعد أن أمسينا في ذلك البيت القديم ، أخبرني زوجي بأنه سيذهب بأمارا وآتين إلى السواحل ، وربما يعود غداً ، وأمرني بالجلوس عند الجدة حتى لا يقع في صدرها شيء ..
حاولت أن أمنعه من ذلك لأننا نريد أن نستمتع سوياً وقبل أن نذهب لسومطرة نمر على سواحل باندا آتشيه ، فآثر فكرته ..
وقبل ذهاب الابنين مع الأب ودعت أمارا بقبلة حانية وفؤادي قلقل لذهابه عني لسواحل لا أعرفها ..
وبعد أن مضوا ..
صنعت أنا والجدة عشاء اندونيسيا أصيلاً ..
تبادلنا أطراف الحديث كل يطرح أحواله وأخباره وطال المساء ..فدخلت الجدة ونعمت بنوم عميق وخلدت معها في نوم قلق .
*****
استيقظنا على صوت المنبه قبل صلاة الفجر تجهزنا لصلاة ثم صلينا الفجر وتنزهنا بالقرب من البيت ونحن على انتظار أبنائنا ، فمللنا الانتظار ..
أخذت الجدة المذياع وسيلة الإعلام الوحيدة لتسمع الأخبار ..
إذا بزلزال يضرب سومطرة لم يكن زلزال فحسب بل تسونامي وصلت أمواجه لسواحل إفريقيا -لا حول ولا قوة إلا بالله –
– لابد و أنها وصلت سواحل باندا آتشيه ..القلق لم يتركنا حاولنا الذهاب إلى السواحل ، فلم نجد أي سيارة توصلنا فالكل مذهول ..
– أنذهب للموت وهذه الأرض تهتز من تحتنا ..
أَجهشت جولي بكاءً فصرت أبكي معها ..
– أكملي .. أكملي ..
وحين عدت لسومطرة ظَهَر اسم أمارا نور الدين مع صاحبيه في قائمة القتلى ، فما حصل مني إلا أن حزمت أمتعتي إلى أي مكان في الدنيا ينسني هذا الألم ، فعدتي لتفتحي أبواب تعبت في إغلاقها فلا تسأليني عن شوقي لأمارا .. لأن أمارا مات وماتت معه أشواقي ..
عانقتها وقلت :
هناك حجرات في قلوبنا مغلقة ، دفنا مفاتيحها مع أصحابها ، ومازال في القلب متسع ..
أنت مسلمة والمسلم قوي بالله فلا تيأسي …أمارا ينتظرك في الجنة إن شاء الله ..
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
أعلم أن أول استفسار يتبادر في ذهنك .. أهي قصة واقعية ؟!!
اقصوصتي هذه من نسج خيالي كتبتها منذ سنتين ,,
هذا وللجميع حبي وتقديري ..