التصنيفات
فيض القلم

الشيخ مصطفى ابو البنات – رائعة

الشيخ مصطفى ابو البنات

——————————————————————————–

احيانا كثيرة ، يقود الله من يحب من عباده الى الهداية عنوة ، بعد ان يعانون ما يعانون من ضروب الالم والعذاب الذي يقودهم في النهاية الى طريق الله ، كما يعبر عن ذلك الاثر العظيم : (( ان ناسا يقادون الى الجنة بالسلاسل )) .
ومن هؤلاء النفر السعداء ـ ان شاء الله ـ رجل صالح اسمه مصطفى ـ او الشيخ مصطفى رحمه الله ـ كتب الله سبحانه وتعالى له السعادة والخلاص بعد معاناة وهم طويلين .
كان مصطفى شابا فقيرا كادحا ، من احدى المناطق الشعبية في الموصل ، كان وحيد والديه ، وكان والده حمالا فقيرا يحصل على قوته يوما بيوم ، وكان يريد لابنه ان يعيش حياة اخرى غير حياة الفقر التي طحنته طحنا، ولذلك ارسله الى المدرسة ليتعلم وياخذ طريقا اخر ، ولم يخيب مصطفى ظن والده فكان تلميذا مجتهدا متفوقا ، بشر نبوغه المبكر بمستقبل مشرق ، ولكن والده توفي فجأة وهو في دراسته المتوسطة ، مخلفا لابنه تركة الفقر ومهنة الحمالة التي اضطر الى احترافها بعد موت ابيه ليستطيع ان يوفر لنفسه ولامه لقمة العيش .
منذ بداية حياته ، كان مصطفى يتمنى لو كان له اخوة كثيرون يشاركونه الدراسة واللعب ، و كان هذا الامر ذا اهمية كبيرة في تلك المنطقة الفقيرة التي كان أهلها البسطاء يعتمدون على سواعد ابنائهم ـ بل اطفالهم ـ في السعي لكسب لقمة العيش ، بينما تعتبر البنات عبئا كبيرا وهما ثقيلا ، وفي تلك السنوات الاولى من حياته العملية الشاقة بعد وفاة ابيه المبكرة ، وهو يكافح بمرارة لانتزاع رزقه ورزق والدته ، بدأ يحس بمعنى اخر لكونه وحيدا ، فقد كان يتمنى لو كان له اخوة يساعدونه في تحمل أعباء الحياة .. وكان يتمنى لو بكّر بالزواج ، لرغبته الشديدة في انجاب ابناء ذكور يقفون الى جانبه ويسندونه في الملمات ، ولكن فقره منعه من تحقيق هذه الامنية .
ومرت سنوات عديدة ، تمكن فيها مصطفى من النجاح في حياته نجاحا لم يخطر له ببال ، فقد تمكن من عقد بعض الصفقات البسيطة ـ في بادئ الامر ـ بمبالغ جمعها بالحرص والتقتير ، ثم تشعبت اعماله البسيطة واتسعت ، وتغير حاله وفتح الله عليه .. انتقل هو ووالدته من داره المتهدم الى دار انيقة حديثة ، واصبح له مكتب فخم وعمال ومستخدمون ، وفي اقل من عام ، تزوج بفتاة جميلة طيبة الاخلاق ، وبات ينتظر تحقيق حلمه الكبير بقدوم اول الابناء .
ولكن تلك الامنية العزيزة على نفسه لم تتحقق ، كان المولود بنتا صغيرة جميلة التقاطيع ، حزن قليلا اول الامر ، ثم عزّى نفسه بان المولود القادم لابد ان يكون ولدا اذا كان المولود الاول بنتا .
وطيلة أشهر الحمل الثاني ، كان مصطفى قلقا ، ولم يشغله نجاحه التجاري المضطرد عن القلق ، الى ان حان وقت الولادة .. وكان المولود الثاني بنتا ايضا ، وتلقى مصطفى هذا الخبر بضيق شديد ، ولبث اياما مضربا عن الطعام الا القليل ، وزوجته المسكينة منطوية على نفسها لا تعرف كيف تخفف عنه هذه المصيبة .
وبعد اشهر من الحزن واليأس ، بدأ مصطفى يتعلق بالامل من جديد بعد أن حملت زوجته للمرة الثالثة ، هذه المرة ، ، زاد من عطاياه للفقراء ، ونذر النذور وزار الاضرحة وعلق الاحجبة والتمائم .. ولكن ذلك كله لم يجده نفعا، فقد كان المولود الثالث بنتا كذلك ..
وفي غمار حزنه ويأسه ، بدأ مصطفى يفلسف الامور ويسأل نفسه لماذا هذه الرغبة الشديدة ؟ هل لأن مجتمعنا قد ترسّبت في أعماقه عقدة المرأة والتقاليد القديمة والنظرة البالية لكل ما يأتي من النساء، ولأن المجتمع ما زال ينظر إلى الرجل على أنه حامي الحمى، والمدافع عن العائلة والحي والقبيلة ؟
ثم فكّر في امر اخر .. هل يكتفي بهذا القدر؟ أم يستمر حتى يرزقه الله بالولد المنتظر؟ حسنا.. فليستمر.. وليمنح زوجته فرصة اخرى لعلَّها تنجب الولد المرتقب .. وهذه المرة كان يسأل الأطباء كيف يكون الجنين ولدًا وكيف يكون بنتًا؟ … وهل استطاع العلماء أن يفعلوا شيئًا يريح القلوب التعسة التي تبحث عن الابن الذي يحمل اسم أبيه ولقبه وثروته ؟
جاء المولود الرابع بنتا ، وبدأ مصطفى يعتقد انه مصاب بلعنة غامضة من نوع ما ، وفكّر انه مقصّر في واجباته الدينية ، وان الله يعاقبه لهذا السبب .. ولهذا ، وقبل كل شئ .. سافر مصطفى الى مكة المكرمة وادى فريضة الحج .. وعندما تلقى نبأ ولادة الطفلة الخامسة .. صرخ الحاج مصطفى : (( مستحيل.. بنت خامسة ؟ إن الأقدار- لا شك- تنتقم مني، أنا لم أفعل شيئًا أستحق عليه مثل هذه العقوبة )) ، وأخذ يدقّ الأرض بقدمه في ضيق واحتجاج .
هذه المرة .. استغرق الامر وقتا طويلا قبل ان يقرر الحاج مصطفى ان يستمر حتى يرى نهاية الأمر، ولكنه بدأ يحس بالخوف اكثر من قبل .. إن العمر يتقدم به، وهو لم يزل يحلم بالولد الذي يحمل اسمه ، ويرث أمواله.. وبدأت حياته تَظلمُّ شيئًا فشيئًا.. وبدأ يحس بكثير من الأعراض المرضية تزحف عليه.. أصبح كل يوم يزور طبيبًا من الأطباء، تارةً يشكو من خفقان في القلب.. وتارة أخرى يشكو من عسر الهضم، أو من ضيق التنفس، أو الأرق، أو الاكتئاب، وأخذت غرفته تزدان بعدد من العقاقير الطبية المتنوعة.. واصبح عصبيا قلقا نزق المزاج .
وعندما رزقَ الحاج مصطفى بالبنت السادسة أصيب بانهيار عصبيّ ونزع عنه قناع الصبر الكاذب الذي تظاهر به واخذ يجاهر بان الله ـ حاشاه ـ يناصبه العداء ويكرهه ويعاقبه بلا سبب ، وتحول بيته الى جحيم .. يدخل عابسا ويخرج غاضبا بعد ان يلعن حظه طويلا ، بينما كانت زوجته المسكينة الحائرة تضمّ وليدتها الصغيرة إلى صدرها في حنان، وتبكي في صمت كاتمة اساها والمها والطفلات الصغيرات حولها يسألنها بالحاح لماذا اباهن غاضب هكذا ، فلا تجيبهن الا بالدموع .
وامام اصدقائه ومعارفه ، كان الحاج مصطفى يعبر عن ضيقه بحظه ، وعندما كان احدهم يذكره بنعم الله عليه ، كان يقول له في تحد : (( هل تتصورني سعيدا لانني غني ؟ .. هناك غيري عشرات بل الاف من الناس الاغنياء قد رزقهم الله باولاد .. فلماذا لا يرزقني باولاد كذلك ؟ )) ..
وشيئا فشيئا بدأ الحاج يهمل الفروض الدينية التي اهتم بادائها منذ ان ادى فريضة الحج ، وعندما كانت امه تعاتبه على ذلك .. كان يقول لها : (( من يدري .. فقد صليت دائما وتصدقت كثيرا وتضرعت الى الله طويلا بدون ان تتحقق رغبتي في ولد .. والان لن اتعب نفسي بشئ من ذلك ، فلربما ارزق بولد هذه المرة ..!! )) .. وكانت امه تنسحب صامتة وهي تدعو له بالهداية .
في المرة السابعة لم يلق الحاج مصطفى بالا لكل ما يجري حوله ، لقد بدا له ولمن معه أن إحساسه إزاء هذه القضية قد تبلّد.. لم يعد يكترث لما سيأتي أو ستأتي .. سوف يقابل الحياة وأحداثها بالسخرية والازدراء، هكذا الحياة.. إذا ركلتها ركعت تحت قدميك، وإن احببتها ولهثت خلفها أهملتك وتركتك.. هكذا كان يحدّث نفسه.. حتى انه لم ينتبه الى ان زوجته ـ وقد اضناها عذابها معه ـ تتدهور صحتها يوما بعد يوم ، ويهزل جسمها وتخور قواها كلما تقدمت بها شهور الحمل .
ولكن الشيء الجديد هذه المرة، أن زوجته عند الوضع أخذت تنزف.. كانت الدماء قليلة في البداية.. لكنها أخذت تزداد.. فسارع باستدعاء الطبيب، وتم نقلها إلى المستشفى، وأجريت لها عمليات نقل دم وإسعافات مستعجلة؛ لكن الأوان كان قد فات.. ماتت الزوجة بعد أن وضعت طفلاً ذكرا.. ميتا..!! ونظر الحاج مصطفى إلى الجثتين في وجوم وذهول .. كان شاحب الوجه، مرتجف الاوصال، زائغ النظرات، يهمس لنفسه في خضوع وتعاسة : لماذا..؟ لماذا..؟
عاد الحاج الى بيته بعد ان انتهى كل شيء .. كانت والدته قد رقدت في غرفتها وقد هدها الحزن والالم ، وكان هو يجلس منهارا على كرسيه الاثير .. عندما انتبه فجأة الى يد حانية تربت على كتفه .. كانت ابنته الكبرى تتوسل اليه ان يأكل شيئا وهي تقول له بين دموعها الغزيرة : (( لم يبق لنا احد سواك الان يا ابي )) .. وكانت أخواتها الخمس يقفن إلى جوارها في طابور صغير، ودموعهن على خدودهن.. نظر الحاج مصطفى الى بناته الستة .. وعاد بذهنه الى السنوات التي مضت .. لقد اساء معاملة زوجته بدون ذنب جنته .. واهمل بناته ولم يظهر لهن أي عطف او مودة ، وعاش حياته كلها بائسا تعيسا رغم ثروته ورغم نجاحه في تجارته .. كان يحس بندم قاتل على عمره الذي ضاع وراء وهم وسراب .. وعلى كل اساءة وجهها الى زوجته البريئة الراحلة .. وتذكّر كلماتها له في بعض الاحيان .. كيف كانت تقول له في بعض الاحيان ـ اذا ما انست منه لينا ومودة في احيان نادرة ـ ان الرسول (  ) قد بشر اصحابه ان البنات هن وقاية لوالدهن ـ اذا ما احسن تربيتهن وتنشئتهن ـ من النار .. وكيف انهن نبع حنان ورحمة للام والاب .. وكيف كانت تلفت نظره مرات الى حركاتهن اللطيفة البريئة .. وكيف كان هو يستقبل كلماتها وتعليقاتها هذه ببرود وجمود .. ودهمته نوبة بكاء حادة عنيفة وهو يحتضن ابنته الكبرى ويضمها الى صدره في حنان غامر ..
في تلك الليلة .. غفا الحاج مصطفى قبيل الفجر .. حيث رأى حلما عجيبا .. رأى نفسه جالسا متربعا في غرفة واسعة جدا لوحده .. كانت غرفة رائعة ، مفروشة بسجاد كثيف ناعم لم ير مثيلا لجماله وفخامته ، وكانت جدرانها من المرمر الابيض الصافي وسقفها ـ الذي صنع من الذهب والفضة ـ مرتفع جدا تتدلى منه ثريات ذهبية ضخمة ، وكلما نظر الى السقف ازداد في نظره ارتفاعا ، وكلما نظر يمينا او يسارا ازدادت الجدران بعدا واتساعا ، كان جالسا لوحده وهو يعجب لجمال وفخامة المكان ، وفجأة سمع صوتا داخليا يخاطبه ويقول له انه مسؤول عن هذا المكان ، وان بامكانه ان يزيده اثاثا واتساعا وبهاء ، تعجب في سره وهو يقول لنفسه : وهل يحتاج هذا المكان الى مزيد من الفخامة والثراء ؟ ثم وجد نفسه يتساءل : ما هذا المكان العظيم ؟ هل هو مسجد ام قصر ام ماذا ؟ .. وسمع نفس الصوت الباطني العميق يقول له بوضوح وجلاء : هذا قبرك .. !!
واستيقظ الحاج مصطفى من نومه على صوت اذان الفجر ..
ومنذ ذلك اليوم انقلب الحاج مصطفى رحمة شاملة وخيرا عميما ، اصبح رجلا اخر غير الذي كانه بالامس ، اصبح مقصد المحتاجين وملجأ الفقراء والمساكين ، عزف عن صغائر الدنيا وهمومها التافهة ، وعزف عن الزواج مرة اخرى ، مصمما على تعويض بناته كل تقصيره السابق في حقهن وحق امهن المسكينة ، وكلما الح عليه الحزن والالم ، عاد بقلبه وفكره الى ذلك الحلم الجميل الذي رآه في يوم من الايام ، وتاقت نفسه الى السكن في ذلك البهو المرمري الرائع الذي قيل له انه قبره .
ومرت سنوات وسنوات ، توفيت امه ، وتزوجت بناته من شبان صالحين اختارهم هو بنفسه من مريديه وتلامذته ، فقد اصبح له مريدون وتلاميذ ، بعد ان انصرف الى العبادة والعلم منذ وفاة زوجته ، وبعد ان رأى حلمه الرائع ذاك ، في ذلك الصباح الشتائي الميمون .
وفي سنة من السنوات ، احس الحاج مصطفى برغبة قوية في الحج الى بيت الله الحرام ، وسافر الى مكة مودعا من اصدقائه وتلاميذه ومحبيه ، وادى مناسك الحج ، وتهيأ هو واصحابه للعودة ، واذا به يشكو الما غامضا في خاصرته ، حمله اخوانه الى المستشفى ، وبعد ساعات فقط ، توفي الحاج مصطفى في ذلك المستشفى بعد اصابته بعجز كلوي حاد لم ينفع في علاجه طب ولا دواء .. ودفن هناك في تلك الارض المقدسة الطاهرة كما اوصى قبل ان يموت ، وهكذا اختتمت حياة هذا الرجل النبيل ، الذي كان مصابه والمه طريقه الى عفو الله ورحمته ورضاه .
__________________

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هناسبحان الله و بحمده

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.