الحداثة تعني عند أربابها شرعية المرحلة الأخيرة من التطور كمنطلق إلى ما بعدها دون مرجعية قيمية أو دينية أو ما أشبهها باعتبار أنها تحمل شرعيتها في ثناياها من منطلق الحداثة وكفى .
وفي اعتقادنا أن الفهم المعاصر لقضايا المرأة في الإسلام لا يمكن أن يتم بغير فهم حدود التماس والتداخل القائم بينها وبين قضايا المرأة الحداثية المستوردة من الغرب ، ومن ثم كان لابد من طرح الموضوع في سياقه الاجتماعي والتشريعي والحضاري العام حول وضع المرأة في المجتمعين : الإسلامي والغربي ، وبتعبير صريح : المرأة بين حقائق الإسلام وأباطيل الغرب ، وهي لاشك من قضايا الساعة الساخنة التي يظن أعداء الإسلام أنهم ينفذون منها إلى حصون الإسلام ليقضوا عليه.
وعندما نضع شئون المرأة هكذا : بين يدي الحقائق تأتي من الإسلام والأباطيل تأتي من الغرب فما ذاك إلا لأن وضع المرأة في الإسلام هو وضع أتانا من الله ، وإذن فإن كل ما يقرره لها الله هو الحق ، لأن الله هو الحق ، ولأنه وهو يضعها حيث يشاء يفعل ما هو حقه من حيث كونه المبدع الحق ، ويبين ما هو حق لها من حيث كونه العدل بحق ، ويبين ما هو حق عليها من حيث كونه الملِك بحق .
أما وضع المرأة في الغرب فهو وضع البشر ، ومن هنا فإن الكثير مما يقرره لها البشر هو بالبداهة باطل ، لأن البشر هنا دخيل على موضوع لا يملكه : لا يملكه معرفة ، ولا يملكه صناعة ، ولا يملكه عدلا ، ومن ثم كان الكثير مما يقرره لموضوعه – الذي هو المرأة – لا مفر من أن يصدر في منطقة الباطل .
نعم لقد حصل – حتى في تراثنا القديم – هذا الانتقال من سعة الحق في الإسلام إلى ضيق المنافذ البشرية بدعوى سد الذرائع أمام الفتنة ، وانحرفت النظرة إليها وإلى طبيعتها نتيجة لذلك ، إننا يجب أن ندرك ما يمكن أن تصل إليه الأمور تحت أسلوب المبالغة في توقع الفتنة وسد الذرائع بتطبيقه الأعرج ، لأنه بهذا التطبيق ينقلب على نفسه بتوليد مفاسد أعظم .
أسلوب سد الذرائع بغير شروطه وما يقتضيه من أفق شامل للرؤية والموازنة لا يلد إلا انفجارا ، وانفلاتا إلى الطرف النقيض الذي آل إليه في المجتمع المعاصر ، مسلما كان أو غير مسلم .ولم يصر المجتمع الأوربي المعاصر إلى ما صار إليه في شئون المرأة إلا بعد أن وصل إلى أقصى الغايات في التضييق على المرأة ثم فيما جره ذلك من تحقيرها ، وظلمها ، والقضاء على إنسانيتها . إننا بهذا التضييق لما وسعه الله نتابع قانون المجتمع الأوربي في منطوقه العام – مهما تدرعنا بالنقاب – وهو قانون المادة في الفعل ورد الفعل .
نعم أليس المجتمع الأوربي هو الذي ضرب الرقم القياسي فيما ابتدعه من حزام العفة ؟ أليست هي أوربا التي بالغت في سلوك هذا الطريق ، فوقع المجتمع الإنساني كله – بعد أن انفصل عن هدي الله – في حلقة مفرغة من قانون الفعل ورد الفعل ؟ والانتقال من النقيض إلى النقيض ؟ وهو قانون المادة الذي رضيه المجتمع الأوربي لنفسه ، ومارسه بطوعه ، وانحرم فيه من عنصر الإرادة الفاعلة ؟
هل أصبح قدرا علينا أخيرا أن ننتقل وراء أوربا من النقيض إلى النقيض من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ، أومن أقصى الطرف هنا إلى أقصى الطرف هناك ، فيحكمنا بذلك قانون رد الفعل بدون تعقل أو بصيرة ؟ فالغلو في التحريم كالغلو في الإباحة حيلة شيطانية تدفع للغواية والعصيان في نهاية المطاف.
وهذا ما حدث عندما غلا المجتمع الإسلامي في التحريم من باب نظرة قاصرة إلى مبدأ سد الذرائع ، فانفلت عيار المجتمع وتلقفته مصاريع أبواب الغرب التي كانت مفتحة أمامه هناك ، وانغلقت أبواب الدعوة ، وانغلقت بذلك أبواب انتشار الإسلام كبديل لحضارة منهارة ، كما انغلقت أبواب تطبيق الشريعة بدعوى واقع منفرلأنظمة وجماعات وحركات إسلامية أخذت تطبق نظرتها إلى المرأة من باب سد الذريعة وخوف الفتنة ، فمنعتها من التعليم كما منعتها من العمل ، فوقعنا في الفساد الأعظم من حيث أردنا التوقي من الفساد الأقل فخرقنا مبدأ سد الذرائع نفسه وأهدرناه .
إنه إذا كان لابد من اختلاف في المسائل التي لم يرد فيها نص قطعي أو إجماع صحيح فاتركونا نختلف لصالح الدعوة : لصالح الدفاع عن الإسلام ، وفتح الآفاق أمامه مرة أخرى .
وقواعد الفقه غنية بما يمكن النظر فيه من أجل أن تتحرك الحركة الإسلامية على قاعدة من الوفاق العملي ، وإن اختلفت الأحكام النظرية – في المدى البعيد – في بعض الحالات .
لو علم المختلفون في المجال الإسلامي عمق المعركة التي يتعرض لها الإسلام من خلال موقع المرأة في المجتمع ، وهي المعركة التي كان مؤتمر بكين الذي عقد عام 1995 – على ضجته ، ودوليته وعالميته التي أحرزها – مجرد ذؤابة جبل الجليد المستتر بجسمه وحجمه الحقيقي تحت الماء ..لو علموا ذلك للملموا أوراقهم ، وهرولوا للوقوف في صف واحد ، يذودون عن الإنسانية ، وعن الدين ، وعن المجتمع ، وعن الإسلام ، جميعا ، ضد عوامل الضلال والتدمير التي تطل برأسها من خلال العولمة ، والعصرنة ، والحداثة ، والفكر الحديث ، والثقافة الحديثة ، والحضارة الحديثة ، بل من خلال بروتوكولات حكماء صهيون – التي تمثلها أمثال الكاتبة اليهودية شولاميت فاير ستون في كتابها " جدلية الجنس " ومؤتمر بكين ، وهيئة الأمم المتحدة ، – والتي لا تحتاج إلى دليل على صدورها عن الصهاينة أقوى مما يجري على الساحة اليوم .
وإنا لنضم إلى خصوم الإسلام هؤلاء – في سوء الأثر- أطفالا يجتهدون !! وعلمانيين يجتهدون ، ومتكلفين ، ومرائين ، تمتلئ بهم ساحة الفتوى : ممسوخين بظاهرة الهزيمة الحضارية والمبادرة إلى التزييف من ناحية ، أو التعصب والتشنج من ناحية أخرى ، والمسارعة إلى قذف الآخر بأخطر التهم وأشنعها مما لا محل له في هدي الإسلام ، ولا مكان له في هدي السلف الصالح .
لقد تبين لكل ذي عينين المدى الواسع الذي ذهب إليه الإسلام في تكريم الإسلام للمرأة وفي تمكينها من الحياة الكريمة – مما بيناه في مقام آخر وتكفلت به موسوعة جليلة بعنوان " تحرير المرأة " للأستاذ عبد الحليم أبو شقة يرحمه الله – كما تبين إلى أي حد أننا بإسلامنا في غنى عمن يدلنا على قيمة المرأة في المجتمع الإسلامي .
إننا في غنى عن الدفاع عن موقف الإسلام من المرأة بدروع ممزقة ملطخة من دروع الثقافة الأوربية أو القاسمية أوالبيكينية أو الحداثية .
نشير هنا إلى معالم البيئة التي ظهرت فيها دعوات تحرير المرأة المعاصرة ، تلك التي تنصب لنا على كل قارعة ، وتصل إلى مؤتمر بكين : هدفا حضاريا ، علينا أن نعمل للوصول إليه.
هنا نلقي نظرة – نستغني معها عن حاسة الشم – على المستنقع الذي يراد لنا أن نغترف منه، تجري فيه الحركة وفقا لقانون المادة الغاشمة : " فعلا" و " رد فعل " .
إذا ذهبنا إلى الجذورلنسجل " الفعل "- ولابد من ذلك وإن كنا نستهدف في النهاية المرأة الحداثية فهذه الثمرة لابد من تلك الجذور – نجد :
أن المرأة كانت عند اليونان من سقط المتاع تباع وتشترى في الأسواق ، وكان رد الفعل على ذلك أن انتشرت عبادة أفروديت ، وأصبحت مواخير الدعارة ذات شأن عظيم ، وصارت مراكز للعبادة .
وعند الرومان كان عقد الزواج يسمى " اتفاق السيادة " سيادة الرجل على المرأة ، ثم انفلت العيار – كرد فعل – إلى النقيض ، فتورمت قضية المرأة ، وانفلت معها عيار الفحش ، والعري ، والاستحمام المختلط العاري ، والمسرحيات العارية المختلطة ، ، والفن العاري.
واعتبرت المرأة في التراث اليهودي رأس الرجس ، والنجس ، ومنبع الخطايا ، ، وفي حال الحيض تعتبر نجسة ، نجاسة عينية فلا يجالسها أحد ولا يؤاكلها أحد ، وكانت لا ترث إذا كان لها إخوة ذكور .
وتبنت الكنيسة الغربية نظرة اليهود إلى المرأة ، وأصبحت مشغولة بقضية المرأة : هل لها روح مثل الرجل ؟ وهل هي من جنس الإنسان ؟ أم من جنس آخر ؟ وظلت هذه المشكلة قائمة إلى ما بعد القرن السادس الميلادي ( 586 ) م ، حيث قرر مؤتمر كنسي : أن المرأة إنسان ، وليست بحيوان ، ولكنها خلقت مع ذلك للاستخدام في مصالح الرجل .
يقول الواعظ المسيحي الشهير تريليان وهو يتحدث عن النساء : ( كل منكن " حواء " [هكذا] أنتن باب الشيطان ، أنتن الآكلات من الشجرة ، أنتن أول من خالف الشريعة الإلهية ) . وزعموا أن هذا هو كلام الله الذي يدخل في صلب العقيدة .
وكانوا وما زال كثير منهم يحرم الزواج على رجال الكنيسة ، ويسمي الزواج الزنا المهذب ، وما يزال بابا الكنيسة الكاثوليكية يرفض المطلب الذي تقدمت به الراهبات لفتح الباب أمامهن لخدمة الرب في السلك الكهنوتي ، ومن المعروف أن في الولايات المتحدة الأمريكية مائة وخمسة وأربعون ألف راهبة يتطلعن للمساواة مع الرهبان ، ولكن لم تجرؤ على إعلان هذا المطلب والاحتجاج المهذب إلا خمسون فقط ..وقفن أثناء خطاب البابا في زيارته لنيويورك عام 1979 وقد وضعن شارة على أذرعتهن ، وبعد صلاة استغفار طوال الليل ، ولكن البابا أصر على أن الكهانة مهنة الرجل . وأن الله اختار الرجل لهذه المهنة ، ولو كان يريد مساواة الرجل بالمرأة لما جاء المسيح في صورة الرجل . يقول كلير راندال سكرتير عام المجلس الوطني للكنائس : ( لقد تكلم البابا كأن المرأة لا يمكن أبدا أن تصبح كاهنة ، وأكد فيما يتعلق بالقداسة أنه لا يمكن للمرأة أن تكون لها نفس علاقة الرجل بالرب . كأن الرب لا يستطيع – على حد تعبير ذلك الكاهن ، وحاشا لله – : لا يستطيع استخدام المرأة بنفس الطريقة التي يستخدم بها الرجل ) . مع أن العقل يمكنه أن يجزم – كما يقول أحد المعلقين – بأنه إذا كانت هناك مهنة في العالم يجب أن تتحقق فيها المساواة بين الرجل والمرأة فتلك هي خدمة الرب في سلك الرهبنة ، لأن كلا منهما يتعالى في هذه المهنة عن صفته المميزة ، ويتحول إلى كائن فوق الذكر والأنثى عندما يضحي بأقوى غريزة في الإنسان ) أنظر كتابنا " الفكر الإسلامي في مواجهة التيارات الفكرية المعاصرة " ص 53-54
ويتساءل بعض الباحثين : لماذا يهتم مؤتمر بكين للمرأة بتقرير الحرية الجنسية للمرأة ، ولا يهتم بتحريم الجنس نهائيا على مائة وخمسين ألف امرأة في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها ، وما لا يقل عن خمسة عشر مليونا في العالم هن عدد الراهبات ؟ فإذا كان الرد هو : لأنه في الحالة الثانية تتم الرهبنة باختيار المرأة وإرادتها ، فإن الرد على ذلك : هو أن الحرية لا تكون مرة واحدة ، ولابد من حق المراجعة ، والبابا – عام 1979 بالتحديد – يرفض أن يحل أي راهب أو راهبة من القسم ، ويقول : " إن السلك الكهنوتي هو اختيار أبدي ، فنحن لا نرد عطاء الله ، الرب الذي قال : نعم ، لا يحب أن يسمع : لآ " هكذا
وفي باب المقابلة بين الدعوة إلى حرية المرأة وحرية الجنس وبين تعاليم الكنيسة نتساءل : أي سجن هذا ضد طبيعة الإنسان وفطرته ؟ وأي انفلات ذاك – في جانب الحرية – ضد طبيعة الإنسان وفطرته أيضا ؟ إنه قانون المادة : الفعل ورد الفعل
……………… يتبع
التصنيفات