د. طارق الطواري
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الآمين ، وبعد ،،
فقد صدق السيوطي لما ألف كتاباً سمّاه ( تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب ) قاصداً بذلك بيان خصلة حفظ الود والعشرة والإحسان وعدم نكران الجميل ، وذلك بعدما حسده
الحاسدون وأقصوه عن مشيحة القاهرة واعتزل الناس في روضة المقياس كاتباً ,معتزلا لأكثر من عشرين سنة الف فيها زهاء ستمائة جزء وكتاب وإذا نظر الإنسان في بعض الفترات من عمره إلى تكالب الناس على الدنيا واقتتالهم على المال والمناصب لا شيء سوا ذلك ولا رغبة بغيرهما علم أن في الخلوة سلوه وفي البعد عنهم نجاة وأحسن الشافعي إذ يقول :
وسـيق إلينا عذبها وعذابها
فما هي إلا جيفة مستحيلة عليـها
كـــلاب همهــن اجتــذابـــها
فـإن تجنبـهـا كنـت سلمـاً لأهلـهـا
وإن تجتذبها نازعنك كلابها
لذا ذهب سفيان الثوري وإبراهيم بن أدهم وداود الطائي والفضيل وبشر الحافي إلى أن العزلة خير من الخلطة لحديث الصحيحين وفيه قيل يا رسول الله أي الناس خير قال ( رجل يجاهد بنفسه وماله ، ورجل في شعب من الشاب يعبد ربه ويدع الناس من شره(
ولحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله ما النجاة قال ( أملك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك ) قال أبو الدرداء( نعم صومعة المرء المسلم بيته يكف لسانه وفرجه وبصره وإياكم ومجالس الأسواق فإنها تلهي وتلغي) وفي الخلطة امراض مثل الغيبة فإن عادة الناس التمضمض والتفكه بالأعراض فإن وافقتهم أثمت وإن سكت كنت شريكاً وإن أنكرت أبغضوك ، وفي الخلوة بعد عن الرياء الذي هو مرض الدعاة والعلماء والمنفقين والمحسنين ، لأن النفس تتشوق إلى الثناء عليها وتطلب المدحة ، وفي الخلوة بعد عن الأخلاق الرديئة والعادات الرذيلة التي ربما سرقها من طبائع الناس ونحن نرى ذلك في أبنائنا وبناتنا كم يتأثرون بمدارسهم وأسواقهم ومجتمعاتهم مع الحرص على إصلاحهم هذا في بلاد المسلمين ، فكيف بمن يعيش بعيداً نائيا عن بلاد الإسلام كالأيتام على موائد اللئام ، ففي مجالسة الفساًق مدّة من الزمن دون إنكار تطبّع بطبائعهم وميول للباطن بفعله لأن الفساد يصير بكثرة المشاهدة والمخالطة هيناً على النفس ويضرب العلماء على ذلك مثلاً بالصوم ، فنظراً لعدم تكراره في العام إلا مرّه ولقلة من يفطر فيه ، فإن المفطر فيه يكون في عرف الناس مرتكب لإثم عظيم وربما كفروه ، أما ترك الصلاة وهو كثير وقد يكون فعل ذلك كفر فلا تجد من ينكره لكثرته وتكراره وتساهل الناس في ذلك .
وفي الخلوة الخلاص من الفتن والخصومات وصيانة الدين عن الخوض فيما لا فائدة فيه لا دنيا ولا آخره ، بل قد يفضي إلى العصبية والبغضاء والحسد .
قال أبو مهلهل أخذ بيدي سفيان الثوري وأخرجني إلى الجبانة فاعتزلنا ناحية فبكى ثم قال : يا مهلهل إن استطعت أن لا تخالط في زمانك أحداً فافعل وليكن همّك مرّمة جهازك ، أي إصلاح ما فسد من أمرك .
وذهب بعض السلف إلى أن الخلطة أفضل لحديث المؤمن الذي يخالط الناس و يصبر على آذاهم خير من الذي لا يخالط الناس) وهو قول سعيد بن المسبب وشريح القاضي والشعبي وابن المبارك وعمل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
والحق أن من رأى أن في خلطته فتنة له في دينه ونفسه وعياله وأن دينه ينقص ولسانه ينفلت وأولاده في ضياع وزوجته في ضعف فسلوته في البعد عن الناس والتقليل من الخلطة ، ومن رأى أن له قدرة على التأثير في الناس ونصحهم وأمرهم ونهيهم وإرشادهم ودعوتهم كالعلماء والدعاة والمصلحين مخالطته أولى وأوجب لحديث ( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم خير من الذي لا يخالط الناس …. ) لكن يحتاج الدعاة والعلماء والمصلحين فترة راحة وخلوة وهي ما تسمى باستراحة المحارب فيها يتفرغ للعبادة والاستئناس لمناجاة الله سبحانه ، وذلك لا يكون إلا بالخلوة و فيها يكون الإنس بالله تعالى .
وبالخلوة يتخلص الإنسان من المعاصي التي يتعرض لها بالخلطة غالبا وتجر عليك كدرا وحزناً وهماً وغماً يقعدك عن العمل للدين أو الدنيا ويقلق عليك راحتك ويسد عليك مناسم الفكر وشعاع البصيرة .
لذا قال عمر رضي الله عنه في العزلة راحة من خلطاء السوء .
وفي الخلوة قطع لأطماع الناس فيك وقطع لأطماعك فيما بأيديهم ، فإن رضا الناس غاية لا تدرك وإن انقطعت عما في أيديهم ورضيت بقسمة الله لك لم تحرك بك الدنيا ولا زهرتها شيئاً ولم تهتم للجري وراءها وستدخر قوتك وجهدك للآخرة .
كما في الخلوة الخلاص من مشاهدة ومخالطة الحمقى والثقلاء والبطالين ، فإن الإنسان إن خالط هؤلاء لم يلبث أن ينقد أخلاقهم وربما وقع في الغيبة فانجر إلى فساد الدين والسلامة من ذلك بالعزلة .
وقد وقفت على بعض الآثار الإسرائيلية في كتاب الدر المنثور للسيوطي من أن أنبياء بني إسرائيل كانوا إذا كُذبوا ولم يلقوا قبولاً اعتزلوا الناس وجاور بمكة إلى أن يأتيهم الأجل وما الاعتكاف الرمضاني إلا نموذج للخلوة .
لذا نصح الدعاة والمخلصين والعلماء أن تكون لهم خلوة في قاموس حياتهم بها يزدادوا علماً وحلماً وقرباً وأنساًَ بالله تعالى .
وقد اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم في مشربة له شهراً بعد أن ألا من نسائه واعتكف كل عام عشرة أيام ، فجرب الخلوة بين المغرب والعشاء أو أيام فراغك ، فإن في الخلوة سلوه .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل ،،،
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ،،،