قد مضى قولنا في مخاطبة الملوك ومقامتهم ، وما تفننوا فيه من بديع حكمهم ، والتزليف إليهم بحسن التوصل ولطيف المعاني ، وبارع منطقهم واختلاف مذاهبهم ونحن القائلون بحمد الله وتوفيقه في العلم والأدب فأنهما القطبان اللذان عليهما مدار الدين والدنيا ، وفرق ما بين الإنسان وسائر الحيوان ، ومابين الطبيعة المبكية والطبيعة البهيمية ، وهما مادة العقل وسراج البدن ، ونور القلب ، وعماد الروح وقد جعل الله بلطيف قدرته ، وعظيم سلطانه بعض الأشياء عمداً لبعض ، ومتولداً من بعض ، فأجاله الوهم وتدركه الحواس تبعث الخواطر الذكر تنبه روية الفكر ، وروية الفكر تثير مكامن الإرادة ، والإرادة تحكم أسباب العمل ، فكل شيء يقوم في العقل وبمثل الوهم ويكون ذكر ثم فكراً ثم إرادة ثم عملاً ، والعقل المتقبل للعلم ، لايعمل في غير ذلك شيئأً والعلم علمان : علم حمل وعلم استعمل فما حمل منه ضر وما استعمل منه نفع
والدليل على أن العقل إنما يعمل في تقبل العلوم كالبصر في تقبل الألوان ، والسمع في تقبل الأصوات ، أن العاقل إدا لم يعلم شيئاً كمن لاعقل له ، والطفل الصغير لو لم تعرفه ادباً وتلقنه كتاباً كان كأبله البهائم وأضل الدواب ، فإن زعم زاعم فقال : إنا نجد عاقلا قليل العلم ، فهو يستعمل عقله في قلة علمه فيكون أسد راياً وأنبه فطنه وأحسن موارد ومصادر ، من الكثير العلم مع قلة العقل ، فأن حججنا عليه ما قد ذكرناه من حمل العلم واستعماله فقليل لعلم يستعمله العقل من كثير يحفظه القلب
قيل للمهلب : بم ادراكت ما أدراكت ؟ قال : بالعلم قيل له : ان غيرك وقد علم أكثر مما علمت ، ولم يدرك ماأدركت قل : ذلك علم حمل وهذا علم استعمل
وقالت الحكماء : العلم قائد ، والعقل سائق النفس ذود ، فادا كان قائد بلا سائق هلكت الماشية ، وان كان سائق بلا قائد اخدت يميناً وشمالاً وإذا اجتمعت أنابت طوعاً أو كرهاً ….
قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يزال الرجل عالماً ما طبل العلم ، فأن ظن انه قد علم فقد جهل .
وقيل لأبي عمرو بن العلاء : هل يحسن بالشيخ أن يتعلم ؟ قال إن كان يحسن به أن يعيش فإنه يحسن به أن يتعلم
.
ودمتم ولي عودة ان شاء الله