أحدث نشر موقع ويكليكس على شبكة الإنترنت أكثر من 400 ألف وثيقة عن الغزو الأمريكي للعراق دويا صاعقا في فضاء الإعلام الدولي استدعى استنفارا من قبل ”البنتاجون” وتشكيل فريق عمل إعلامي من 120 شخصا, لدراسة هذه الوثائق وتأسفا على النشر وتنديداً به من وزيرة الخارجية الأمريكية ووصفا له من رئيس وزراء بريطانيا بأنه خطير، على أمريكا تقديم إجابات عنها، فيما اعتبر رئيس وزراء العراق المنتهية ولايته نوري المالكي أنها تستهدف تخريب انتخابه قافزا فوق اتهامها له بأنه كان يدير فرقاً للاغتيال.
الشيء الأكيد أن ما طرحته الوثائق المنشورة عن تورط أمريكي أو بريطاني أو إيراني أو غيرها من المؤسسات والأشخاص لم يكن جديدا بالمطلق، فالمتابعون الشرفاء لمجريات طواحين الدم والرعب التي دارت رحاها في العراق منذ 2022 وحتى اليوم ظلت كلماتهم تشير بأصابع الإدانة، وليس الاتهام، لأمريكا قيادة وجيشا ومخابرات وتجار حرب، وصدرت مقالات ودراسات وكتب تفيض غيرة على الكرامة الإنسانية المهدرة، وتشجب المهانة التي تعرض لها العراق شعبا وأرضا، أما بشأن أعداد الضحايا فكثيرة هي المصادر التي نشرت أعداداً هم بمئات الألوف والمصابون أو المعوقون والمشردون في المهاجر بالملايين .. وكله تم تحت مزاعم الكذبة الواهنة في حيازة العراق أسلحة دمار شامل، اعترف بها مفتشون وساسة كان أبرزهم كولن باول وزير خارجية جورج دبليو بوش.
تكمن أهمية ما نشر في كونه بات عملا وثائقيا وشاهدا بالكلمات والأرقام والتواريخ والأسماء وليس مجرد قراءة دارس أو مركز نشط في حقوق الإنسان أو في التدوين السياسي والعمليات الحربية. وبالتالي فهذه الوثائق – التي تحفظ الموقع على ما هو أشد منها فضائحية وخطورة – سوف تطرح على بساط البحث (أو هكذا ينبغي لها أن تؤدي) إمكانية نقل مفاعيل ما جاء فيها إلى محكمة دولية تشكل للنظر في الجنايات الرهيبة التي ارتكبت بحق شعب العراق بلداً وبحق كل مواطن من مواطنيه أو مقيم فيه طاله جرم بالقتل أو التعذيب أو السجن أو الملاحقة أو التشريد، وكذلك في الانتهاكات التي مورست باستخفاف بكل مواثيق الأمم المتحدة واتفاقية جنيف سواء في استخدام الأسلحة والذخيرة المحرمة دوليا أو في تدمير الموارد الطبيعية أو التراثية والحضارية.
فهل ينجح الرأي العام العالمي في الضغط باتجاه محاكمة المتورطين في جريمة غزو العراق وتداعياتها الكارثية باعتبار أن ما جرى ليس له من توصيف سوى أنه جرائم حرب؟
وإن تذرعت بنزع أسلحة الدمار الشامل والإطاحة بنظام الطاغية صدام حسين، وإذا لم ينجح، فليس أقل من أن يؤدي هذا التشهير الموثق إلى إعادة الاعتبار للمعايير الأخلاقية في عملية اختيار الزعامات والقيادات السياسية والعسكرية وليس المعايير البرجماتية العمياء التي أدت إلى ميكافيلية: (الغاية تبرر الوسيلة) فأترعت بيوت العالم بؤسا في العراق مثلما كان في هيروشيما ونجازاكي مرورا بفيتنام إلى فلسطين وأفغانستان وباكستان وغيرها من أمم مغلوبة على أمرها.
إن قيمة وثائق ويكليكس، مهما كان الدافع والمخطط من وراء نشرها، ومهما كان موقف الأشخاص الذين دفعوا بها، تتعدى كونها تكشف الغطاء عن خفايا وأسرار دول وأشخاص ودوائر إلى تشخيص وفضح الانفصام الصارخ في الخطاب الأيديولوجي عن نشر القيم الليبرالية وحقوق الإنسان من قبل أمريكا، زعيمة العالم الحر، وبريطانيا، أعرق الديمقراطيات, أو عن نصرة المظلومين من قبل دعاة إسلاموية ولاية الفقيه في إيران وغيرها وكيف ترجم الخطاب سحقا للحق والحرية والعدالة من هذا المنطق وذاك!!
هذا الفصام وإن كان وثيق الصلة بغياب المعايير الأخلاقية، فإنه يمضي أبعد مزلزلا الأسس الاعتقادية التي تزعم إنسانيتها هذه الدول لكيلا ينزع المصداقية عن الأشخاص فحسب، بل يتجاوزهم إلى الدولة نفسها ويتركها عارية من مصداقيتها تحت رياح حقيقتها البشعة وواقعها المشين وهذا المآل .. قد لا يجعل، محاكمة الأشخاص والدول المتورطة هذه المرة ضرباً من المثالية. وإنما توجه أممي تتضافر لأجله جهود مؤسسات المجتمع المدني الحقوقية والفكرية في العالم وإلا بقي شعر جدنا أديب إسحاق مجرد فزاعة للضمير:
”قتل امرئ في غابة
جريمة لا تغتفر
وقتل شـعب كامل
مسألة فيها نظر!!”
صالح الشهوان
المصدر: صحيفة الإقتصادية