:
ليتني فعلتها ! ..*
كانت طفلتها الصّغيرة ذات العامين تتصرّف بغرابة ذلك اليوم
إذ كانت تردّد كلمات والدها بتكرار أثار استغرابها !
نقلت نظراتها بين طفلتها هذه وشقيقتها الأخرى التي لم تتجاوز عامها الأول بعد ؛
وهي تكتم حزنًا تُخفيه عن أعين من حولها
إذ ودّعت قبل ثلاثة عشر يومًا جنينًا ذكرًا في أشهره الأولى ؛
بعد أن انقطع عنه الأوكسجين وتوقّف نبض القلب
لكنّه بقي في الثّلاجة لعدّة أيّام حيث أنّ والده كان في بداية أيام عمله الأولى
وكان غير مسموحٍ له بالخروج تلك الفترة حيث أنّه يتبع جهة عسكرية
إلى أن ذهب العمّ شقيق الوالد واستلم الجنين ودفنه في ذلك اليوم
اجترّت آلامها بصمت وهي تتذكّر ثلاث سنوات مضت من عمرها
مع زوجها الذّي رزقها الله إيّاه ، فعاشت معه أجمل أيام حياتها
ابتلعت شوقها إليه وهي تستعرض أيامها معه يوماً بيوم وساعةً بساعة
فقد غادرها منذ أسبوعين بعد أن تمّ قبوله للعمل في تلك الجهة العسكرية
استرجعت في مخُيّلتها كيف كانت تلك الفتاة العابثة البعيدة عن ربها
فلم تكن تهتم لأمور دينها .. ولم تكن تُصلّي !
وكان حجابها – إن سُمّي حجابًا – فاتنًا مزركشًا
حقًّا .. لقد كانت باختصار مفرّطةً في أمور دينها .. غفر الله لها ..*
ثمّ جاء ذلك اليوم الذّي تقدّم لها هذا الشّاب فتيسّرت الأمور وتمّ الزواج
كان زوجها طيّباً كريماً حلو المعشر حسن التّعامل
وكان لأسلوبه الرّاقي وتعامله معها أبلغ الأثر في استقامتها
فبدأت تصلّي .. ثمّ ارتدت عباءةً ساترةً على الرّأس برضىً تام
لكنّ ارتداء القفّازين لم يرُقْ لها كثيرًا فكانت تُماطل في ارتدائهما وتقدّم له الأعذار
مضت حياتهما هانئةً و رزقهما الله بطفلتين جميلتين
وكان زوجها دائماً حريصًا عليهما وينصحها أن لا تُلبِسَهُما القصير
وينتقي معها الفساتين السّاترة لهما رغم صغر سنّهما
فكانت تسعد باهتمامه ببناته الدّائم وحرصه عليهما وحبّه لهما
أوقفت شريط ذكرياتها التّي أشعلها شوقها إليه ؛
فقد أحسّت بتعبٍ وخاصّةً بعد عملية الإجهاضِ القريبة
فتركت بُنيّاتها في رعاية والديها وأخواتها ، وأخلدت إلى النّوم
على الجانب الآخر .. كان يوم زوجها مميّزًا .. ولكنه مختلف تمامًا !
صلّى فرائضه الخمس في جماعةٍ .. ثمّ حضر مجلس ذكرٍ طيّب
لكن حدث الشّيء المختلف بعد ذلك .. !
إذ أتته لحظةً شعر بضيقٍ في التّنفّس وبعضَ الاختناق
ذهب واتّصلَ بزوجته لسببٍ ما .. لكنّها كانت نائمةً – كما أخبره أبوها –
أعاد الاتّصال بعد قليل .. لكنّها أيضًا كانت نائمة !
شعرَ بزيادةٍ في الاختناق فذهب إلى رئيسه كي يستأذنه للرّاحة
تلقّاه رئيسه ناظرًا إليه في تعجّب .. !
فقد كان وجهه يميل إلى الزّرقة ، وبالكاد يلتقط أنفاسه !
لم ينتظر الرّئيس وأسرع بطلب الإسعاف الذّي حضر على الفور
لكنّ علامات الدّهشة كانت باديةً على كلّ الوجوه من حوله
فلم يكن هناك إشارات للحياة في أجهزة التّنفس والقلب !
لا أوكسجين .. ولا نبض في القلب !
باختصار : كان الشّاب .. يحتضر !
ومع ذلك كان بين أيديهم يحرّك شفتيه بـــــ الشّهادتين !
مضت الدّقائق مُتسارعة .. ثمّ لفظ أنفاسه الأخيرة !
ليلحق بطفله الجنين بعد ثلاثة عشر يومًا من وفاته
وبنفس الأعراض : لا أوكسجين ولا نبض في القلب !
لم تتمالك نفسها ! فقد كانت الصّدمة عنيفةً عليها وهي في مرحلة النّفاس
فخارت قُواها .. وانهارت .. وسقطت مغشيًّا عليها
ثمّ استفاقت لتُواجه الواقع الأليم بفقدِ الزّوج الحبيب
لكن .. جاء الجبرُ لقلبها المكسور من الجبّار سبحانه ؛
كـــ غيثٍ انسكبَ بردًا وسلامًا على نيران قلبها ؛ فأطفأها
وأتبَعَتهَا مواساةُ صديقاتها لها وتذكيرهن لها بالصّبر والاحتساب
لتُقاسمنها هــمًـا أضنى كاهلها فتخفّفنَ أثقاله عليها
لكنّها كانت على ثقةٍ أنّ ما حدث كان خيرةَ الله لها ولزوجها
فقابلته بإحسانِ الظّنّ أنّه لا يأتِ من ربّ الخير إلا الخير
فقد عاشت هذا بنفسها حينما عرفت السّعادة الحقيقية بقرب ربّها
بعد أن امتنّ الله عليها بزواجها ، لتستقيم على طريق الهدى بعد ضلال
والآن قدّر الله عليها رحيل زوجها لحكمةٍ أخرى لا تعلمها
لكنّها تثقُ أنّه لــــ خيرٍ كتبه الله عليها وقدره ..
قبل أن يخلق الله السّموات والأرض بخمسين ألف سنة
استرجَعتْ وبكت ْكثيراً .. لقد رحل الحبيب .. وأنّى له الرّجوع !
ارتدت قفّازين تستران كفّيها .. واستغربت الرّاحة التّي وجدتها في ارتدائهما
فلم تكن تُعيقاها عن شيءٍ – كما اعتقدت سابقًا – !
ومرّ عليها شريط الذّكريات مع إحساسها هذا محمّلًا بالحسرات :
ليتني أسعدتُ زوجي بارتداءِ القفّازين في حياته ..
ليتني فعلت هذا قبل موته ..*
ليتني .."""
سنرحلُ .. أو يرحلُ أحبّتنا قبلنا يومًا ما ..
فلا تتأخّروا في إهداء الفرح لقلوبهم بما يسرّهم منكم
حتّى لا تتجرّعون الحسرات بعد رحيلهم !
فـــ لو رحلوا .. لن يعودوا أبداً ..**
:
[ عن قصة حقيقيّة تمّ استئذان صاحبتها في نشرها جبر الله قلبها ]
:
بقلم وقلب : قطـرات
()
: