التصنيفات
روضة السعداء

العقوبات والاثار المترتبة على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

سنن الله – تعالى – في خلقه ثابتة لا تتغير ولا تحابي أحداً ، ولا تتخلف عند وجود أسبابها .
وإن من سنن الله الماضية أن يسلط عقوباته على المجتمعات التي تفرط في شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون )) ( سورة المائدة 78 79 ) .
ولقد غطى الجهل وقلة الدين على قلوب بعض السطحيين ، فاغتروا بإمهال الله عز وجل فظنوا أن تحذير الغيورين من مغبة التمادي في المنكر ، ومن عقبى السكوت عن إنكاره ، ظنوا ذلك ضرباً من ضروب الإرهاب الفكري والتخويف المبالغ فيه ، وليس له حقيقة .
لكن الذين يستنيرون بنور الوحي ، ويتأملون نصوص الكتاب والسنة ، يدركون تمام الإدراك العقوبات العظيمة التي سنها الله في حق كل أمة تخلت عن التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر سواء كانت تلك النصوص حكايةً لمصائر الأمم التي فرطت في تلك الشعيرة ، أو وعيداً لمن سلك سبيلها وليس من الضروري أن تظهر هذه العقوبات بين يومٍ وليلةٍ ، فإن الذي يحدد زمانها ومكانها وصفتها هو الله – عز وجل – وليس استعجال البشر أو استبطاءهم .
وتلك العقوبات والآثار السيئة كثيرة ومتنوعة ، لكن من أظهرها :
1.كثرة الخبث:
روى البخاري ومسلم عن زينب بنت جحش رضي الله عنها (( أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ من نومه فزعاً وهو يقول : " لا إله إلا الله . ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا – وحلق بين إصبعيه السبابة والإبهام – " . فقالت له زينب رضي الله عنها : يارسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث ." (1)
إن المنكر إذا أعلن في مجتمع ولم يجد من يقف في وجهه ؛ فإن سوقه تقوم وعوده يشتد وسلطته تظهر ورواقه يمتد ويصبح دليلاً على تمكن أهل المنكر وقوتهم , وذريعةً لاقتداء الناس بهم وتقليدهم إياهم وما أحرص أهل المنكر على ذلك ولهذا توعدهم الله جل وعلا فقال (( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ))(سورة النور 19)
فإذا قلد بعض الناس أهل المنكر والزيغ في منكرهم ؛ أخذ الباطل في الظهور ، وهان خطبه شيئاً فشيئاً في النفوس ، وسكت الناس عنه وشغلوا بما هو أعظم منه ، وما تزال المنكرات تفشو، حتى يكثر الخبث ، ويصير أمراً عادياً مستساغاً ، تألفه النفوس ، وتتربى عليه .
وينحسر – بالمقابل – المعروف والخير ويصبح هو المستغرب , ولذلك قال الخليفة الملهم عمر بن عبدالعزيز – رحمه الله – في كتاب إلى أمير المدينة الذي يأمره فيه بأن يأمر العلماء بالجلوس لإفشاء العلم في المساجد: (( وليفشوا العلم ، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً )).
إنها لعقوبة كبيرة أن يهيمن المنكر ، ويصبح المعروف غريباً لكن .. هل يقف الأمر عند هذا الحد ؟ إليك الإجابة :
2. إن كثرة الخبث تؤذن بالعذاب الإلهي العام والهلاك الشامل كما دل على ذلك حديث زينب المذكور آنفاً ، الذي نقل عن جماعةٍ من الصحابة ، مما يدل على اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر .
______________________________________________
(1) رواه البخاري (3168) و مسلم (2880) .
ولقد بوب الإمام مالك في الموطأ على هذا الحديث باباً سماه : ( باب ما جاء في عذاب العامة بعمل الخاصة ) وساق تحت هذا الباب أثراً عن عمر بن عبدالعزيز ، وهو قوله رحمه الله : كان يقال إن الله – تبارك وتعالى – لا يعذب العامة بذنب الخاصة ، ولكن إذا عمل المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلهم (1) .
وهذا الأثر يدعم ما سبق ذكره من خطورة الإعلان بالمعصية ومن وجوب التفريق بين المنكر المختفي والمنكر الظاهر .
وقد قص الله – عز وجل – علينا خبر بني إسرائيل حين نهاهم أن يعدوا في السبت ولنا في تلك القصة عبرة (( وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرةً إلى ربكم ولعلهم يتقون . فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيسٍ بما كانوا يفسقون . فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردةً خاسئين )) ( سورة الأعراف 164-166 ) .
إذن فقد أنجى الله تعالى الذين ينهون عن السوء فقط ، وأما البقية فقد عذبهم كلهم . هذه سنته – سبحانه – في كل أمة يحق عليها العذاب .
فإن لم يكن في الأمة من ينهى عن السوء والفساد فلا نجاة لأحد منها (( فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفو فيه )) ( سورة هود 116) .
وفي حديث جرير الذي رواه أبو داود : (( ما من رجل يكون في قومٍ يعمل فيهم المعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه ، فلا يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا )) (2)
إن وجود المصلحين في الأمة هو صمام الأمان لها ، وسبب نجاتها من الإهلاك العام ، فإن فقد هذا الصنف من الناس ؛ فإن الأمة – وإن كان فيها صالحون – يحل عليها عذاب الله كلها صالحها وفاسدها ؛ لأن الفئة الصالحة سكتت عن إنكار الخبث ، وعطلت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فاستحقت أن تشملها العقوبة .
وروى أبو داود والترمذي عن أبي بكر – رضي الله عنه – أنه قال : (( أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية )) : (( ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لايضركم من ضل إذا اهتديتم )) (سورة المائدة 105 ) وإنـي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن الناس إذا رأو الظالم فلم يأخذوا على يديه ؛ أوشك أن يعمهم بعقاب منه )) (3) وقد روي هذا الحديث
_________________________________________________
(1) الموطأ 1/ 991 (2) ابو داود ( 4339) (3) رواه الترمذي ( 2168 ) وأبو داود ( 4338 )

مرفوعاً كما روي موقوفاً ، والراجح أنه موقوف على أبي بكر ، لكن له حكم المرفوع ، لأنه مما لا يقال بالرأي . والظالم هنا هو المرتكب لأي نوع من أونواع الظلم الكثيرة ، فالمشرك ظالم (( إن الشرك لظلم عظيم )) ( سورة لقمان 13 ) والعاصي أياً كانت معصيته ظالم لنفسه ولغيره ، سواء كان سارقاً أو غاشا أو منتهكاً عرضاً أو غير ذلك .
وروى حذيفة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم )) (1) . يهز القلوب الحية ويدفع أصحابها إلى أن يكونوا من أولي البقية الذين ينهون عن الفساد في الأرض لتكون سفينة المجتمع محمية من الغرق الذي يهددها عندما يترك السفهاء يخرقون فيها ، كما روى النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها ، كمثل قومٍ استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا , فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً )) (2).
فالمجتمع تماماً كأصحاب السفينة هؤلاء، فإن الذين في أعلى السفينة إن تركوا الذين في أسفلها ليخرقوا في نصيبهم خرقاً وقالوا : هذه حرية شخصية لهم ، فليفـعلوا ما شاءوا فإن النتيجة غرق السفينة وهلاك الجميع , وإن أخذ الذين في الأعلى على أيدي الذين في الأسفل وقالوا لهم : ليس الإضرار بالملك العام من الحرية الشخصية فالنتيجة نجاة الجميع , وهكذا حال المجتمع فإن أهل الفساد الواقعين في حدود الله يخرقون بمعاول انحرافهم في سفينة المجتـمع, فإن
أخذ المصلحون على أيديهم ومنعوهم من الإضرار بالمجتمع ، نجا الجميع وإن تركوهم في غيهم وتخاذلوا عن الأنكار عليهم ؛ هلكوا قاطبةً .
وقبل أن أترك الحديث عن هذه العقوبة أود أن أنبه إلى أمر لا يكاد ينقضي العجب منه ، وهو أن بعض الناس يستغربون مثل هذا الكلام يستغربون من قول الناصحين : إن المصلحين حماة سفينة المجتمع من الغرق بل قد يستغربون من قول الناصحين : إن ما أصابنا وأصاب غيرنا من الأحداث الأخيرة المؤلمة إنما بسبب الذنوب والمعاصي يستغربون ذلك، ويعزو بعضهم ما حدث إلى الأسباب المادية ويقولون : كيف تكون المعاصي هي سبب ماحدث ؟ ، والكفار – مع كفرهم – يعيشون في نعيم وسعة عيش ، وتمكين في الأرض ؟?!
_______________________________________________
(1) رواو الترمذي ( 2169 ) وأحمد في المسند 5/ 388. (2) رواه البخاري ( 2361 ).

هكذا يقولون ويظنون متناسين أو جاهلين سنن الله الثابتة ، والنصوص الصريحة الواضحة ، والوقائع التاريخية السالفة والخالفة .
وهذا منطق الذين لا تتعدى نظرتهم الحياة الدنيا ، ومنطق السطحيين الذين ينظرون إلى رقعةٍ محدودة من المكان، في حيز محدود من الزمان، ومنطق الماديين الذين يتنكرون لوحي الله عز وجل (( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون . أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون . أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون . أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون . أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون )) ( سورة الأعراف 96-100 )
(( وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذاباً صعداً )) ( سورة الجن 16-17 )
(( ولولا أن يكون الناس أمة واحدةً لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضةٍ ومعارج عليها يظهرون . ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون . وزخرفاً وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين )) ( سورة الزخرف 33-35 ) .
3. الاختلاف والتناحر :
إن من أنكى العقوبات التي تنـزل بالمجتمع المهمل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يتحول ذلك المجتمع إلى فرقٍ وشيع تتنازعها الأهواء، فيقع الاختلاف والتناحر (( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض )) (سورة الانعام 65 ) وذلك التناحر يجعل المجتمع عرضة للانهيار والانهزام أمام العدو الخارجي المتربص .
ولا يحمي المجتمع من التفرق والاختلاف إلا شريعة الله ، لأنها تجمع الناس ، وتحكم الأهواء، أما إذا ابتعد الناس عن شريعة الله – تعالى – أصبح كل امرئ يتبع هواه , وأهواء الناس لا يضبطها ضابط .
وإن ما يدل على ارتباط التفرق والتناحر بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن الله عز وجل قال : (( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون يالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون )) ( سورة آل عمران 104) ثم قال بعد ذلك مباشرةً (( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات )) ( سورة آل عمران 105 ) والمتأمل في حال عددٍ من البلاد الإسلامية يجد أن من أهم أسباب تفرق المجتمع فيها أنهم أهملوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ فترتب على ذلك شيوع الفساد وظهوره وسيطرته ، بشتى صوره وأنواعه ما بين عري ، وسكر ، وحفل غنائي ، وسهرة راقصةٍ ، وعرض مسرحي ، وغير ذلك .
وهذا الفساد يغيظ الصالحين ، فيغارون على حرمات الله فيحاولون تغيير المنكر ، فلا يجدون قناة شرعية تمكنهم من تغيير المنكر ، فيضطرون إلى أساليبت مندفعةٍ تجعل المجتمع أطرافـاً متصارعةً متناحرةً .
ونماذج ذلك في المجتمعات الإسلامية غير قليلةٍ فمن ذلك ما نشرته بعض الصحف من أخبار منذ عدة سنوات عن إندونيسيا التي يشيع فيها كثير من المنكرات – شأن كثير من البلاد الإسلامية – تقول هذه الأخبار أن هناك مجموعة من الناس غير معروفة تتصيد المجرمين خفيةً وتقضي عليهم ، أي إذا وجدوا إنساناً يقوم – مثلاً – على بيت دعارة أو على أي منكر علني فإنهم يقتلونه ولا تعجب من مثل هذا في بلادٍ يسكنها نحو مائةٍ وخمسين مليوناً من المسلمين وتكون عطلتهم الرسمية يوم الأحد .
ومن ذلك ما يجري من بعض الغيورين في مصر – مثلاً – من إنكار بعض المنكرات بصورة حماسية ، فقد أعلن مثلاً في جامعة أسيوط عن حفلٍ غنائي مختلطٍ ، فقام عدد من الطلاب ضد هذا المنكر ، ودخلوا مكان الحفل بالقوة ، وحطموا الآت الفسق ، ومنعوا إقامة الحفل في تلك الليلة .
وغير أولئك المتحمسين المندفعين ينظر إلى ذلك التصرف على أنه شغب وإخلال بالأمن .
ولو وجد أولئك الغيورون سبيلاً شرعياً للإنكار لم يلجا أحد منهم إلى مثل هذه الطرق ، ولكن سدت أمامهم المنافذ الصحيحة وأوصدت دونهم الأبواب ، فركبوا تلك المراكب الصعبة وهم يقولون :
إذا لم يكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها
وقد كانوا – لا شك – عن ذلك في سعةٍ ولهم عنه مندوحة . ومن صور التفرق والتمزق التي تحدث في المجتمع بسبب ترك هذه الشريعة أن تتفشى بين الناس منكرات القلوب من الغل والحقد والحسد والبغضاء والتناحر وما يترتب على اختلاف القلوب من اختلاف التوجيهات والآراء والأعمال والأقوال بحيث إن المجتمع يهدم بعضه بعضاً ويدمر نفسه بيديه .
فهذه من أعظم المنكرات التي يجب إنكارها والتحذير منها ، وسكوت العالمين والمعلمين عنها سبب في انتشارها ورسوخها وصعوبة الخلاص منها .
ثم إن المنكر إنما صار منكراً ، ونهى الله – تعالى – عنه لما فيه من الخبث والضرر العاجل والآجل ، فالمعاصي وبال على الأفراد والمجتمعات وسبب لتمزقها وتشتتها .. ثم انهيارها وزوالها ، فالنهي عنها سياج حماية الأمة من آفات الضعف والتخلخل والضياع , والسكوت عليها دليل أكيد على غياب معايير النقد الصحيح والتوجيه البناء وهو تواطؤ آثم مع القوى الشريرة التي تريد بالأمة سوءً ا ، وتسعى لهدم قلاع الخير والفضيلة والصلاح .
فمعاصي البيع والشراء من النجش والغش وبيع المعدوم والمجهول وسائر أنواع البيوع المحرمة ، والمعاملات المنكرة لها من الأثر الكبير في تشتيت القلوب وتدابرها وتباغضها ما لا ينكره ذو عقل .
وما يقال فيها يقال في سائر أنواع المعاصي .
والسكوت على هذه المنكرات هو نوع من الرضا بها وإقرارها .
4. تسليط الأعداء :
فإن الله – جل وعلا – قد يبتلي المجتمع التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأن يسلط عليهم عدوا خارجياً ، فيوذيهم ، ويستبيح بيضتهم ، وقد يأخذ بعض مافي أيديهم وقد يتحكم في رقابهم وأموالهم .
وقد مني المسلمون في تاريخهم بنماذج من ذلك ، لعل منها ماوقع للمسلمين في الأندلس ، حيث تحولت عزتهم وقوتهم ومنعتهم – لما شاعت بينهم المنكرات بلا نكير – إلى ذل وهوانٍ سامهم إياه النصارى حتى صار ملوكهم وسادتهم ينادى عليهم في أسواق الرقيق وهم يبكون وينوحون ، كما قال الشاعر:
فلو رأيت بكاهم عند بيعهم لهالك الوجد واستهوتك أحزان
تقول أم أحدهم – هو أبو عبدالله آخر ملوك الطوائف – تخاطب صاحب الملك المضاع :
ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال
وشبيه بذلك ما حدث في فلسطين من تسلط اليهود على المسلمين ، وتنكيلهم بهم ، وطردهم لهم حتى صارت فلسطين أخت الأندلس ، وحتى ذهبت كما قال الشاعر :
ياأخت أندلسٍ صبراً وتضحيةً وطول صبر على الأرزاء والنوب
ذهبت في لجة الأيام ضائعة ضياع أندلس من قبل في الحقب
وطوحت ببنيك الصيد نازلة بمثلها أمة الإسلام لم تصب
5. عدم إجابة الدعاء :
الإنسان يلجأ إلى الله وحده عندما يمسه الضر ، ويدعوه سبحانه أن يكشف عنه السوء حتى المشرك يفعل ذلك : (( ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون )) ( سورة النحل 53 ) (( وإذا مسكم الضر في البر والبحر ضل من تدعون إلا إياه )) ( سورة الإسراء 67 )
[[ والمسلمون التاركون لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عندما ينـزل بهم العقابيتجهون إلى الله – عز وجل – يدعونه ولكنه لا يستجيب لهم كما جاء في حديث حذيفة الذي ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( والذي نفسي بيده، لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليبعثن الله عليكم عقاباً منه ، ثم تدعونه ، فلا يستجاب لكم )) (1) .
يا الله .. أو حقاً يدعو الناس فلا يستجيب الله لهم ؟! الله الذي يقول (( وسعت رحمتي كل شيء )) (سورة الأعراف 156) الله الذي يقول (( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان )) ؟! ( سورة البقرة 186 ) هل يمكن أن يحدث ذلك ؟!
صدق الله وصدق رسوله ، وما يمكن أن يكون ذلك إلا حقاً وإنه لحق ترتجف له النفس فرقـاً ويقشعر الوجدان رعباً وماذا يبقى للناس إذن ؟ ماذا يبقى لهم إذا أوصدت من دونهم رحمة الله ؟ولمن يلجأون في هذا الكون العريض كله وقد أوصد الباب الأكبر الذي توصد بعده جميع الأبواب .. ويبقى الإنسان في العراء ، العراء الكامل الذي لا يستره شيء ، ولا يحميه شيء من لفحة الهاجرة وقسوة الزمهرير .
ألا إنه للهول البشع الذي يتحامى الخيال ذاته أن يتخيله ..
لأنه أفظع من أن يطيقه الخيال .
فهل كتب الله ذلك الهول البشع على عباده – المسلمين – الذين يدعونه ويسألونه ويستنصرونه ؟.
نعم حين يكفون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولو بأضعف الإيمان (2) ]] .
6. الأزمات الاقتصادية :
قد تحل الأزمات الاقتصادية بالمجتمع المفرط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتتلاطم به أمواج الفقر والضوائق ، ويذوق الويلات من الحرمان .
ولقد وصلت الأزمات ببعض المجتمعات الإسلامية إلى حالٍ من الفقر يرثى لها حتى أصبح الفرد يكدح في سبيل الحصول على لقمة العيش فلا يجدها مما قد يحوجه إلى ما في أيدي النصارى _________________________________________________
(1) رواه الترمذي ( 2169 ) وأحمد في المسند 5/388.
(2) قبسات من الرسول ، محمد قطب ، ص 53 – 54 ، ط الثانية 1962 م .

المتربصين الذين يسخرون طاقاتهم لتنصير المسلمين ؛ فيؤدي ذلك إلى وقوع المسلم في التنصير والعياذ بالله خاصة أن انشغاله بلقمة العيش قد ينسيه كثيراً من أمور دينه ، مما يبعده عنه ويهونه عليه .
وهكذا المنكرات ، سلسلة يجر بعضها بعضاً إلى أن تهوي بصاحبها .
وكما أن هناك من يفسر ما يحل بالمجتمعات من الحروب والأحداث المؤلمة تفسيراً مادياً بحتاً كذلك هناك من يفسر الأزمات الاقتصادية تفسيراً مادياً بحتاً ، والمؤمن الذي يعي سنن الله يدرك أن وراء السبب المادي سبباً شرعياً حدث في المجتمع ، فاستحق ما جرت به سنة الله من معاقبة المجتمع الذي يظهر فيه الخبث بلا نكير .
كما أن هناك من تسفك أعراضهم على مذبح الرذيلة وتداس كرامتهم جرياً وراء الدرهم والدينار .. إن كثيراً من الجرائم وأماكن البغاء تتفشى في تلك الأحياء الشعبية التي يشيع فيها الفقر وينتشر فيها العوز والفاقة .
ولعل من أجلى الصور وأوضحها في الدمار الاقتصادي الذي يلحق المجتمعات بسبب إهمال النهي عن المنكر : السكوت عن الربا وما يجره من تفاقم في المستويات المعيشية والاقتصادية فيزيد الفقير فقراً إلى فقره ، ويزيد الغني ثراًء فيصبح المال دولةً بين الأغنياء ، وتسير الأمة إلى هاوية الدمار البعيد .
وها هي ذي مراكز الدراسات الغربية تتحدث عن مصير أسود ينتظر الرأسمالية خلال عقدٍ أو عقدين من الزمان ، كذلك المصير الذي آلت إليه الشيوعية !
(( فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين )) ( سورة يونس 102 )
7. ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
يوجب الوقوع في الشهوات والإغراق فيها وهذا من شأنه أن يجعل الناس مرتبطين بالدنيا , أصحاب نفوس ضعيفة غير جادين .
فالشباب الذي ليس له هم إلا أغنية ماجنة ، أومجلة خليعة ، أو شريط مرئي هابط، أومكالمة هاتفية شهوانية ، أو سفر إلى بلاد الإباحية والتحلل ، هذا الشاب الذي أصبحت حياته كلها شهوة هل يستطيع أن ينعتق من إسار الدنيا ، ويجد في تحصيل العلم النافع ؟!
هل يستطيع أن يحمل السلاح ليدافع عن نفسه وعن أمته ؟!
لا ريب أنه لا يطيق ذلك ، لأنه تعود على الارتباط بالدنيا ، والركون إلى الشهوة ،ولم يألف الجدية والحزم .
وإنك لتجد مصداق ذلك عندما تتأمل في واقع كثير من الشباب المبتعثين إلى البلاد الغربية مثلاً حيث ترى الشاب المتدين المستقيم منهم جادا في تحصيله العلمي لأنه يحمل هم أمته , لأنه لم يبعد الشهوة ، ولم يرسف في أغلال الدنيا الدنية .
أما الشاب الشهواني المنحرف فإنك تراه منغمساً في شهواته ورغباته ، غير جاد في تحصيله العلمي تافه الاهتمامات ؛ لانه لا يحمل إلا هم هواه فتخسره الأمة ويكون وبالاً عليها .
وهذه الحقيقة أدركها كل البشر حتى الوثنيون منهم فإن اليابان – مثلاً – لما بعثت أول بعثةً من أبنائها للتعليم في بلاد الغرب ورجع أولئك المبتعثون متحللين من مبادئهم ذائبين في الشخصية الغربية منغمسين في الشهوات الفردية لم يكن من اليابانيين إلا أن أحرقوهم جميعاً على مرأى من الناس ليكونوا عبرةً لغيرهم ثم ابتعثوا بعثة أخرى ، وأرسلوا معهم مراقباً كان يقدم عنهم تقارير متواصلة تبين جديتهم ومحافظتهم على تقاليدهم الوثنية وغيرها . هكذا أدركوا أن صرعى الشهوات لا يمكن أن يكونوا جادين في يوم من الأيام .
وفي مجتمعات المسلمين لا شك أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو سبب غرق أبناء المجتمع في الملذات والأهواء التي تقعد بهم عن معالي الأمور .
8. الإهمال في أخذ العدة :
سواء كانت عدة معنوية بقوة القلوب وشجاعتها، أو عدة مادية محسوسة تجهز لمقاومة الأعداء فإن الاستعداد لا يتقنه ولا يلتفت إليه إلا أصحاب الهمم ، المعرضون عن السفاسف . أما صرعى الشهوات فليسوا أهلاً لذلك ، بل إن مجرد الكلام عن الحرب يرعبهم ، فضلاً عن خوض المعارك وركوب الأهوال .
9. هناك عقوبة جداً خطيرة وهي أن الأمة بدأ مسارها في عدد من البلاد الإسلامية يتغير . ذلك أن المنافقين المفسدين لم يكتفوا بإشاعة المنكرات بل مضوا يخططون لسلخ الأمة عن دينها جملةً حتى تتحول إلى أمة علمانية لا دين لها وتقبل أن تحكم بأي شريعة وأن يشيع فيها أي انحراف فكري أو خلقي .
وهذا التحول أخطر من سيطرة الكافرين والمنافقين عسكرياً على البلاد الإسلامية والواقع يشهد لذلك ، فإنك لو تأملت لوجدت البلاد الإسلامية التي أخذت من المسلمين بالقوة العسكرية محدودة كالأندلس التي أخذها النصارى قديماً ، وفلسطين التي سيطر عليها اليهود قهراً . هكذا تبقى قليلة محدودة ثم إن تأثيرها على مسار الأمة إيجابي ؛ لأن فيها إيقاظاً لها وتحريكاً لغيرتها وبعثاً لحميتها الدينية .
لكن لوتأملت في واقع كثير من البلاد الإسلامية التي كان يحكمها الإسلام ويشيع في أهلها المعروف ؛ لوجدتها اليوم بلاداً علمانية تحكمها نظم غير شريعة الله ، نظم تحمي الرذيلة وتحارب الفضيلة ، فتجد مثلاً في جامعاتها الاختلاط نظاماً محتماً وتجد محاربة الحجاب ووصف أهله بالرجعية والتخلف إلى غير ذلك من فنون الإغواء .
هكذا وقعت الأمة في براثن المنافقين ، فسعوا جاهدين لسلخها عن دينها بسبب غياب المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر عن الساحة ، أو ضعفهم في أداء رسالتهم .
والمجتمع ميدان لصراع الفئتين (( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر )) ( سورة التوبة 71 ) (( والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف))( سورة التوبة 67 ) فأي الفئتين غلبت، استطاعت أن تصبغ المجتمع بصبغتها .
ولذلك كانت قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قضية مصيرية يترتب عليها احتفاظ الأمة بمسارها الإسلامي، ولهذا السبب كان الأمر بالمعروف النهي عن المنكر في العهود المتقدمة يحظى بأشد العناية من المسلمين أجمعين فقد كان كل مسلم يشعر أنه مطالب بذلك في كل مجال وعلى سائر المستويات فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في بيته ، وفي سوقه ، وفي مسجده ، وفي كل مكان ، لا يفرق في ذلك بين صغير وكبير ، ولا قريب أو بعيد ، ولا معروف أو مجهول ، ولا ذكر أو أنثى .
هكذا كانوا يشعرون أن ذلك الأمر دين يدينون الله به ، فلم يكلوه بأكمله إلى جهة معينة ويلقوا باللائمة عليها إذا رأو منكراً .
ومع ذلك كله عني المسلمون بنظام الحسبة الذي كان رجاله يقومون بمراقبة المجتمع عموماً في كل شيء ويسعون لإصلاح ومنع جميع أسباب أذاه , فيمنعون الباعة من الغش وينصفون الدائن من المدين وإذا رأوا مثلاً بيتاً آيلاً للسقوط عالجوا أمره بما يناسب وإذا وجدوا شارعاً ضيقاً قاموا على توسيعه وإذا رأوا نزاعاً فضوه إلى غير ذلك من المهمات .
إذن كانت مهمة رجال الحسبة مهمة شمولية , أصبحت اليوم موزعة على عدة جهاتٍ من أنظمة مرورية وبلدية وتجارية وغيرها إلى جانب مهمة السلوك والأخلاق وإيقاف الناس عند حدود الله .
وما كان هذا الاهتمام البالغ بنظام الحسبة الذي ظهر بوضوح في عهد عمر بن الخطاب إلا لإدراك الأمة تلك الشعيرة في مسارها .
· حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أجمع أهل العلم على فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , فرض عينٍ أو كفايةٍ .
فذهب ابن حزم رحمه الله إلى إنه فرض عين ، لحديث أبي سعيد مرفوعاً : (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان )) (1).
وعند جماهير أهل العلم أنه فرض كفاية ، وهذا هو الصحيح ؛ لقوله تعالى : (( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر )) ( سورة آل عمران 104 ) فإذا قامت الأمة المذكورة في الآية – وهي الطائفة – بالمهمة سقطت عن الباقين ولكن يشترط أن تكون هذه الطائفة ممن تحقق بهم الكفاية في إقامة هذه الشعيرة .
على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون فرض عينٍ في بعض الحالات .
إضافةٍ إلى أن الإنكار القلبي وكراهية المنكر والقائمين به ، هو فرض عين على الجميع باتفاق العلماء ولا يعذر أحد بتركه لأنه ممكن لكل أحدٍ .
وهذه الحالات هي:
1 – إذا لم يعلم بالمنكر غير شخص معين ، فهو حينئذٍ مطالب بالإنكار وجوباً ، لأن الكفاية لاتقوم إلا به .
2 – إذا لم يستطع تغيير المنكر إلا شخص بعينه ، فمثلاً قد تشيع بعض المنكرات في وجهاء المجتمع وأعيانه وكبرائه ، فلا يستطيع كل أحدٍ من المسلمين أن ينكر عليهم ، فيتعين حينذٍ على من يستطيع الإنكار من ذوي المكانة العلمية والاجتماعية أن ينكر عليهم .
3 – يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على من ولاه الله أمرا من أمور المسلمين ، بدءً ا بالسلاطين الذين ائتمنهم الله تعالى على الأمة , فإنما شرع الإسلام الولاية العظمى لتحقيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكل مصلحة تحتاجها الأمة فهي من المعروف وكل مفسدة للأمة فهي من المنكر ، سواء كان ذلك في الأمور الدينية أو الدنيوية .
ثم كل مسلم حسب ولايته ومسؤوليته ، فالوزير مسؤول عن رعيته ومدير الدائرة الحكومية مسؤول عن رعيته ومدير المؤسسة مسؤول عن رعيته والمدرس مسؤول عن رعيته والأب مسؤول عن أسرته ورجل الحسبة المكلف من قبل ولاة الأمور مسؤول عن القيام بمهمته بقدر المستطاع .
وهكذا نجد أن كل فردٍ في الأمة مطالب بأن يكون قيماً على من ولاه أمرهم ؛ من أدنى مسؤوليةٍ إلى أعلى مسؤولية .

______________________________________________
(1) رواه مسلم ( 49 ) .

وها هنا قضية خطيرة لا بد من إثارتها وهي أن كثيراً من الناس اعتادوا أن يلقوا بمسؤولية إنكار المنكر على غيرهم ، فيلومون – مثلاً – العلماء والأمراء لأنهم يستطيعون تغيير المنكر ، ويتنصلون هم من المسؤولية تماماً ولو اطلعت على بيت أحدهم فقد تجد فيه عشرات المنكرات لم يغيرها وكأنه ينتظر أن يأتي العلماء إلى بيته ليغيروها , وهذه العادة خطيرة وسيئة فإن كل فردٍ في المجتمع مسؤول عن إصلاح ما يستطيع إصلاحه لأنه جزء من المجتمع يجب عليه القيام بمهمته ، كما يجب على العلماء وغيرهم أداء مهمتهم ولو أن كل مسلم قام بما عليه من الأمر بالمعروف النهي عن المنكر لصلحت الأمة وأفلحت ، وظهر المعروف واختفى المنكر .
أما إذا ظلت تتدافع القيام بهذا الواجب ، فالعامة تلوم العلماء وتطالبهم بالإصلاح ، والعلماء يلومون العامة على خذلانهم لهم ، وكل فئةٍ في المجتمع تلقي بالمسؤولية على غيرها فيظل المنكر قائماً ممكناً إلى يوم يبعثون .
· مراتب الانكار
بين الرسول صلى الله عليه وسلم مراتب الانكار بقوله (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإذا لم يستطع فبلسانه فإذا لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان )) (1) .
إذن فالمطلوب من المسلم حين يرى المنكر أن يغيره بحسب المستطاع متدرجاً في ذلك من أقوى صور الإنكار إلى ما هو دونها .
أما من حيث الواقع العملي فالذي يحدث أولاً هو تأثر القلب ونفوره وإنكاره للمنكر عندما يراه ثم يرسل القلب الأوامر إلى اللسان لينطق بإنكار ذلك المنكر على من واقعه واقترافه .
فإن امتثل وأقلع عن منكره فهذا هو المراد وإلا كان الانتقال إلى التغيير باليد .
إذن فأول ما يحدث هو التغيير بالقلب ثم التغيير باللسان ثم التغيير باليد من حيث الواقع .
لكن المراد من المسلم هو أن يغير بيده إن استطاع , فإن عجز لجأ إلى التغيير باللسان ، فإن عجز كفاه أن يغير بقلبه ، وذلك بأن يكره ذلك المنكر ويبغضه .
والإنكار بالقلب فرض عين على جميع المسلمين ، وفي جميع الأحوال لأن القلب لا سلطان لأحدٍ من الناس عليه حتى يستطيع منع صاحبه من مقت المنكر وكرهه .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (( .. فإن لم يستطيع فبقلبه وذلك}أي التغيير بالقلب{ أضعف الإيمان )) وفي حديث ابن مسعود : (( وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خرذل )) (2)
________________________________________________
(1) رواه مسلم (49) وأبو داود ( 1140) والترمذي (2173) والنسائي 8/111 وابن ماجه ( 4013 ) .
(2) رواه مسلم (50)
أي أن الذي يرى المنكر فلا يتحرك قلبه ببغض ذلك المنكر والامتعاض له ، ليس في قلبه إيمان البتة ، فضلاً عمن يرى المنكر فيسر به ويفرح له عياذاً بالله تعالى .
وها هنا أمر جدير بالوقوف عنده ، وهو ( التلميح والتصريح في الإنكار ) فإن الاسلام دعا إلى التدرج في هذا الأمر ، بحيث يكتفي المنكر بالتلميح إن كان التلميح مجدياً ، فإن لم يغن شيئاً انتقل المنكر إلى التصريح .
فقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام ، يقول عندما يرى منكراً (( ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟ )) (1) لأن هذا التلميح العام كان يكفي في كثير من الأحيان لرد صاحب المنكر عن منكره لكنه صلى الله عليه وسلم كان إذا وجد أن الموقف يحتاج إلى التصريح فإنه يصرح ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة , فقيل : منع ابن جميل, فقال النبي صلى الله عليه وسلم (( ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله ورسوله ))(2) هكذا صرح النبي صلى الله عليه وسلم ، بابن جميل ، لأنه أصر على منع الزكاة . وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي مرة بأصحابه ، فلما انصرف من صلاته قال (( يافلان ألا تحسن صلاتك ! ألا ينظر أحدكم كيف يصلي ! إني أراكم من وراء ظهري كما أراكم من أمامي ))(3) .
والشواهد على سلوكه صلى الله عليه وسلم ، مسلك التلميح إذا أغنى والتصريح إذا دعت إليه الحاجة ؛ كثيرة ومشهورة .
وعلى ذلك فإن الواجب على المسلم إذا وجد إنساناً مجاهراً بالفساد مثل الذي يكتب المقالات المضللة والمؤلفات الهدامة التي تحارب الإسلام وتطعن في أهل الاستقامة وتشوه تاريخ الأمة المجيد , أقول إن الواجب على المسلم أن يعلن الإنكار عليه وأن يفضحه بين الناس .
على أن هذا الترتيب في مراتب الإنكار ليس مطرداً دائماً ، فثمة حالات يتطلب الأمر فيها المبادرة بالإنكار باليد فوراً دون انتظار وليس من المعقول أن يقف المسلم على رجلين مشتبكين في قتال ومضاربةٍ ، ثم يقف ليلقى عليهما محاضرةً في حقوق المسلم على أخيه ، وحرمة دم المسلم وماله وعرضه ! بل بجب أن يتدخل فوراً لفك الخصومة بينهما متى كان ذلك ممكناً له .
وهكذا لو وقف على فاحشةٍ أو منكرٍ يتطلب القيام بتغييره بصفةٍ عملية مع القول أو بدونه .
· قضية الانكار باليد

الإنكار باليد هو المرتبة الأولى من مراتب الإنكار ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (( من _________________________________________________
(1) البخاري ( 5750 ) و ( 717 ) (2) البخاري( 1399 ) ومسلم (983) (3) مسلم (423)
رأى منكم منكراً فليغيره بيده …)) . ويكون التغيير باليد بإتلاف المنكر إما بإحراقه أو هدمه أوغير ذلك, والأصل أن الانكار باليد مهمة الجهة التي فوض إليها ذلك , لكن هذه الجهة لا توجد أصلاً في كثير من البلاد وقد توجد ولكنها لا تقوم بعملها ومسؤليتها وحينئذٍ يجوز الإنكار باليد للأفراد المصلحين في المجتمع كما صرح بذلك أهل العلم , ولكن بأربعة شروط :
أحدها: ما سبق ذكره : فقدان السلطة والجهة المسؤولة التي يفوض إليها القيام بالإنكار باليد.
ثانيها: ظهور المصلحة الراجحة على المفسدة ، أما إذا ظهر للمنكر أن الإنكار باليد قد يؤدي إلى مفسدة أكبر ، مثل التضييق على المصلحين الغيورين أو انتشار المنكر واتساع دائرته ففي هذه الحال يمنع الإنكار باليد .
ثالثها: أن يتعذر ذلك المنكر بغير اليد أي أن المنكِرَ حاول التغيير بلسانه فلم يستطع فله حينذاك أن يغير بيده .
رابعها: وهو شرط مهم مراجعة العلماء في ذلك ، فإن بعض الشباب – بما أعطاهم الله من الحيوية والغيرة والتوقد والقوة – إذا رأى منكراً فار الدم في عروقه ولجأ إلى التغيير بيده بدون أن يراجع أهل العلم العاملين الذين يعرف عنهم أنهم بلا ريب مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة والصلاح .
ومراجعة أولئك العلماء تنطوي على مصالح عديدة .
المصلحة الأولى : التيقن من أن نفع هذا الإنكار أكبر من ضرره . ذلك أن نظر الغيور المنفعل قد يكون قاصراً ، لكن العالم قد يكون أبعد نظراً .
المصلحة الثانية : أن الذي ينكر باليد قد يتعرض لأذى في نفسه أو أهله أو وظيفته ، أو نحو ذلك فيحتاج حينئذٍ إلى وقوف أهل العلم معه ، فإذا كان يصدر عنهم فهذا يضمن له مساندتهم له .
المصلحة الثالثة : أن هذا يدعم أهل العلم ويقوي مكانتهم ويضاعف تأثيرهم في تغيير المنكرات فإن من أهم دعائم إنكار المنكرات وجود العالم الذي يلتف الناس حوله فيكسب بذلك منـعة وقوة تمكنه من الإنكار وتجعل كلمته مسموعة وصوته موثراً .
فإذا توافرت هذه الشروط وحرص الأفراد على مراعاة هذا الفقه آتى الإنكار باليد ثماره ، مع السلامة من المحاذير والسلبيات .
أما التعجل والاستجابة لانفعالات النفس غير المنضبطة والاندفاع وراء العواطف المجردة لا يثمر إلا الفشل للمهمة العامة التي نذر المصلح نفسه لها إضافةً إلى الفشل الفردي للشخص ذاته بأن يؤول أمره غالباً إلى نوع من القنوط أو الإحباط أو الاستيئاس وترك العمل والله المستعان .

· وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الوسائل كثيرة لا تنحصر في مجال أو نمط معين ومتى ما كان في قلب المرء اهتمام بأمر الدين وحرقة للإسلام وحرص على مستوى الأمة فإن هذا الشعور يدفعه إلى ابتكار وسائل مختلفة يستعين بها على إقامة هذه الشعيرة وقد قيل ( الحاجة أم الاختراع ).
لكن هذه الوسائل يجب أن يتحقق فيها شرطان :
1 – أن تكون مباحة ، فلا يجوز أن يستخدم المنكِرُ وسيلة محرمة ليزيل بها المنكر ، فإن النجاسة لا تغسل بالنجاسة .
2 – أن تؤدي المقصود ، بحيث يتم بها إزالة المنكر ، وتحقيق المعروف وعلى ذلك فإذا كانت الوسيلة غير مجدية فلا داعي لاستخدامها فإذا جزم بأنها تؤدي الغرض أو غلب على ظنه ذلك كان عليه أن يتوسل بها إلى تحقيق المقصود .
· ومن أبرز أمثلة الوسائل التي ينبغي استعمالها في مجال الأمر والنهي :
1. الكلمة الهادفة :
سواء كانت تلك الكلمة محاضرة أو درساً أو خطبةً أو موعظةً بعد الصلاة أو ما شابه ذلك فمجالات الكلمة واسعة جدا . وها هنا أمر جدير وهو أسلوب الكلمة , إذ لا بد أن يكون مناسباً فيراعي مثلاً ألا تكون الكلمة ضربةً في وجه صاحب المنكر تصفعه بها دون مقدمات ولا تمهيدات .
خذ على سبيل المثال : المنكرات الظاهرة المنتشرة بين الناس كالتدخين وإسبال الثياب وحلق اللحى … الخ .
إن هجوم الإنسان على مراده مباشرة قد يؤدي إلى نتيجة عكسية وقد يخرج الناس من جراء ذلك بانطباع لا يخدم قضية الأمر بالمعروف النهي عن المنكر .
لكن لو أنك بدأت حديثك بقضية أكبر من هذه ؛ بقضية التشبه بالمشركين ونهي الإسلام عن ذلك وعظم خطورته على دين المرء وذكرت الأدلة الشرعية والأمثلة الواقعية لذلك وسقت طرفاً من كلام المؤرخين ، ومن كلام الباحثين المعاصرين وتدرجت في عرض القضية حتى تصل إلى ضرب بعض الأمثلة للتشبه بالمشركين من الواقع وتأتي بقضية حلق اللحية مثالاً لذلك وتدعم كلامك عنها بما ورد من نصوص في الأمر بإعفاء اللحى كقوله صلى الله عليه وسلم (( وفروا اللحى )) (1) ومضيت في بسط القضية وعرضها على هذه الشاكلة فإنك إن وفقت في ذلك العرض اللبق فإن الحاضرين المستمعين إليك وإن كانوا حليقي اللحى فسوف يتقبلون النصيحة وتدخل قوبهم .
وقد وقع لي مرة أن زرت مدرسة في إحدى مناطق هذه المملكة ، فرأيت في المدرسة كثيراً من المنكرات ، فآليت على نفسي أن أقول شيئاً عن ذلك ، وفعلاً تحدثت إليهم فبدأت بكلامٍ عام عن الشباب ومشكلاتهم ، وخطط الأعداء الغربين للقضاء على الشباب حتى ارتاح الحاضرون إلى هذا الكلام ، وأحسوا أنه كلام يحتاجون إلى مثله وربما لم يسمعوه قبلاً لأن المنطقة نائية .
بعد هذا تكلمت عن الاعتزاز بالإسلام وأن المسلم هو الأعلى في عقيدته وسلوكه ومنهجه وتاريخه ، وذكرت أن المسلم العزيز العالي لا يقلد الكافر النازل كما أن الكبير لا يقلد الصغير والمدرس لا يقلد الطالب وإنما الذي يحدث هو عكس ذلك ، فالصغير يقلد الكبير والطالب يقلد أستاذه والمغلوب يقلد المنتصر .
ثم انتقلت إلى الحديث عن التشبه بالمشركين ، وما ورد فيه من نصوص ، ثم أدخلت كل المنكرات التي رأيتها في المدرسة في باب التشبه وتحدثت عنها .
فلما انتهيت خرج معي أحد المدرسين ، وحدثني قائلاً : جزاك الله خيراً, إنك أنكرت علينا ولم نجد في نفوسنا من هذا الإنكار شيئاً ، لكن فلاناً من الناس – ذكر شخصاً – على الرغم من صغر سنه وقلة خبرته يصعد المنبر ويتكلم بكلمات مبتذلةٍ عن بعض هذه المنكرات ، تكون سبباً في نفور الناس وعزوفهم عن المتحدث وخطبته ، وربما أدى إلى إصرارهم على ما هم عليه واستمرائهم لما يفعلون .
وقد يستفتح المتحدث كلمته بمقدمةٍ عن المقاصد العامة للشريعة وحفظها للدين وللنفس والعرض والمال والنسب والعقل ليسترسل بعد ذلك في أمثلةٍ معنيةٍ مقصودةٍ مما حرمه الإسلام ، رعاية لهذه الضرورات المحفوظة المصونة ليكون الكلام أجزل وأمتن وأوقع في النفس ، وأدعى للقبول .
هذا إلى أن الداعي ليس يسوغ له أن يجعل كل حديثه نقداً وتخطئةً لا يرى فيهم حسنةً تستحق الإشادة ، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم ، للأشج ، أشج عبدالقيس : (( إن فيك خصلتين يحبهما الله : الحلم والأناة )) (2) .
________________________________________________
(1) رواه البخاري ( 5553 ) ومسلم ( 259) .
(2) رواه مسلم (18)

وأثنى عليه الصلاة والسلام على جماعات من أصحابه كخالد بن الوليد ، عبدالرحمن بن عوفٍ ، وطلحة وسواهم كثير فالثناء على الإنسان – فرداً أو جماعةً – بما هو فيه لغرض شرعي صحيح أمر لا غبار عليه .
فلا بأس أن يزين الداعية نصحه بثناءٍ جميلٍ مقتـصدٍ على حسناتٍ لدى المنصوح – فرداً أوجماعة – يكون في ضمنها دعوة له إلى نشدان الكمال البشري الممكن له .
ولا بأس أن يتعاهدهم بالنصح بين حين وآخر ، لئلا يملوا ويسأموا ، ولا يحشد لهم كل ما ينتقده عليهم في قعدةٍ واحدةٍ !.
2. الكتاب والكتيب :
وذلك بالكتابة والتأليف في إنكار شيءٍ من المنكرات ، أو بالإسهام في توزيع ما كتب في ذلك فكل بحسب طاقته : فإن كنت طالب علم تستطيع الكتابة في موضوع ما ، فاكتب وأنكر المنكر وبين للناس الخير من الشر، واسع في طباعة ما كتبت ونشره . وإن لم تستطع ذلك فأسهم في توزيع الكتاب عن طريق بذل المال . فإن لم يكن عندك مال ، فشارك في عملية الكتاب بجهدك البدني في المؤسسات والمدارس والمساجد والدوائر وغيرها .
وهكذا يقوم كل شخص بمسئوليته في هذا المجال بحسب قدراته وإمكاناته ، ولو كل مسلم غيور قام بواجبه – أو بعضه – لكان معنى ذلك أن الدعاة يملكون أعظم مؤسسات التوزيع في العالم , ولكانت الدعوة الإسلامية تملك من المراسلين جموعاً غفيرةً لا تملكها دعوة أخرى في الدنيا كلها .
3. النشرة الصغيرة :
وهي تسمى المطوية ، وتتكون من بضع صفحات تعالج موضوعاً معيناً ومن ميزاتها أن من السهل أن يقرأها المرء على عجالةٍ فحسن أن يستفيد الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من هذه الوسيلة ، ويشارك في توزيعها ونشرها لتوعية الناس .
4. الشريط :
سواء بإعداد شريطٍ يحتوي على معالجةٍ لبعض المنكرات أو بالإسهام في نشر هذا النوع من الأشرطة بقدر الإمكان ، خاصة أن أكثر البيوت اليوم – بل كلها – لا تخلو من أجهزة تسجيل كما أن بإمكان المصلح أن ينسخ من الشريط نسخاً عديدة ، ويوزعها ليستفيد الناس مما فيها من الخير ، وأقل ذلك أن يدفع الشريط بعد استماعه إلى آخر يسمعه ويستفيد منه ، إن طالب المدرسة الابتدائية يستطيع أن يوفر من قيمة الشاي يشتريه من المقصف المدرسي ما يشتري به كتيباً أو شريط في الشهر أو في الأسبوع .
5. الجريدة :
الجريدة واسعة الانتشار ، فقد يطبع من بعضها مائة ألف نسخة ، أو مائتا ألفٍ ، في اليوم الواحد فينبغي الكتابة فيها لإنكار بعض المنكرات خاصة إذا كان المنكر قد انتشر في الجريدة نفسها ، فلا يكفي أن تذكر أن هذا منكر في مجلس يحتوي على فئةٍ قليلةٍ من الناس ، والجريدة قد قرأها مائة ألف أو يزيدون ، وإنما عليك أن تكتب مقالةً وتراعي فيها قواعد النشر ، وتبعث بها إلى الجريدة لكي تنشر ويستفيد منها أكبر عددٍ من الناس .
6. الهاتف :
فبالإمكان أن تتصل بصاحب المنكر وتأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر ، أو تتصل بمن يستطيع تغيير المنكر ؛ من علماء ومسؤولين ، ووجهاء .
أرأيت حين تعلن جهة عن عمل لا يرضي الله ، فتنهال عليها الاتصالات الهاتفية من أطراف شتى ألا يكون ذلك موثراً في دفع المنكر !
أذكر أنني اتصلت بمؤسسة أعلنت عن حفل مختلط في إحدى الدول المجاورة ، فعرفت المسؤول بنفسي ، ومكان اتصالي ، وكلمته عن الإعلان المذكور ، فاعتذر ، وقال إن هذا الإعلان نزل بطريق الخطأ ، وقد أعلنا في الجريدة في اليوم التالي نقداً لهذا الإعلان ربما لم يتسن لك الاطلاع عليه ، وإن الناس قد اتصلوا بنا من كل مكان ، حتى كبار العلماء والمشايخ اتصلوا واستنكروا الأمر، وقد بلغناهم بحقيقة الأمر ، ونحن نشكركم … ألخ
والشاهد من ذلك أننا حين نتصل على صاحب منكرٍ ، فإننا بذلك نفهم الناس ماذا يريد المجتمع .
والهاتف – من خلال التجربة – وسيلة فعالة جداً ، وموثرة في هذا المجال على أنها لا تكلف جهداً أوعناءً فكل ما في الأمر مبلغ من المال مقابل هذه المكالمة يكون في سبيل الله ولا يضيع ، وبمجرد رفع السماعة وإدارة قرص الهاتف تجد أنك إنسان إيجابي ومؤثر .
7. الرسالة الشخصية :
وما أبلغ أثر الرسالة الشخصية على قارئها متى كتبت بأسلوبٍ لبقٍ مهذب يخاطب مكامن العاطفة في النفس البشرية .
إنها حديث مباشر هادىء ، يعطي الآخر فرصة التفكير والمراجعة والتصحيح ، وهو بعيد عن الكلمات التي قد يزل بها اللسان من دون قصدٍ ، إذا إن الكتابة تمنح الداعي فرصة التفكير فيما يكتب ويسطر .
وحتى لوخاطبت قطاعاً عريضاً من الناس ، طباعة الأغاني ، أو متعاطي الربا ، أو مروجي الأفلام الهابطة ، أو أصحاب المحلات التجارية ، أو أي طبقة من طبقات المجتمع .
ولو خاطبتهم برسالة مطبوعة على جهاز (( الكمبيوتر )) تسجل على كل نسخة اسم المحل الدي توجه إليه لكان لها وقع خاص موثر، أعظم من وقع الكتاب والشريط الذي لا يخاطب المعني مباشرة.
8 – مقاطعة صاحب المنكر :
بحيث يتم الامتناع عن معاملة المكان أوالمؤسسة التي يوجد فيها المنكر .
فبيوت الربا التي تجاهر بحرب الله تعالى وحرب رسوله صلى الله عليه وسلم (( يا أيها الذين آمنو اتقو الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحربٍ من الله ورسوله )) ( سورة البقرة 278 – 279 ) هذه البيوت من أين شبت وترعرعت وقويت ؟! اليس من أموال المسلمين !!
والمجلة الماجنة ، ما الذي ضمن لها الاستمرار والرواج والثراء ، حتى أصبحت لا تخرج إلا في ورق صقيل وطباعة فاخرة ؟! أليس أموال المسلمين !!
وكل مؤسسات الفساد والانحراف والرذيلة إنما كفل لها الذيوع والبقاء إقبال الناس عليها وعلى ما تبثه من سموم ودعمهم لها بأموالهم ، من حيث يشعرون أو لا يشعرون .
ولو أن المسلمين قاطعوها , لانتهت تلقائياً ولوئدت في مهدها . لكن الواقع المر أن أحد المسلمين أجَّرَها مقرا ، والآخر توظف فيها ، والثالث تعامل معها والرابع دعا إليها .. وهكذا حتى صار المجتمع – من حيث يشعر أو لا يشعر – ينفخ روح الحيوية والقوة في مثل هذه المؤسسات، ثم يعود الناس يمتعضون منها ويستاؤون ، ولا نقول لهم إلا ( يداك أوكتا وفوك نفخ ) .
على سبيل المثال لو أن أحدنا دخل على صاحب تموينات يبيع الدخان والمجلات الفاسدة فقال له : يا أخي لماذا تبيع هذه المحرمات ؟ فسيقول لو لم أبعها لما عاملني الزبائن . فليرد عليه قائلاً : وهل أنا إلا من الزبائن ، إني سأقاطع تمويناتكم إلا أن تطهروها من هذه المحرمات . ثم يأتي ثانٍ وثالث ورابع .. ويكون لهم الموقف نفسه ، وبعد ذلك ستجد أن الرجل أخلى محله من تلك المنكرات ، فإذا جاءه شخص يبحث عن شيءٍ منها ، قال له : إن الزبائن رفضوا أن يشتروا مني وعندي هذه الأشياء .
وهكذا تؤدي هذه الوسيلة مفعولها إذا تعاون أهل الخير ، وأثبتوا وجودهم خاصة أن الناس لا يزال فيهم خير كثير ؛ مما يجعل إمكان استجابتهم كبيراً بإذن الله تعالى .
9. التشهير :
إذا لزم الأمر ودعا الموقف إلى اللجوء إلى التشهير بالمنكر وصاحبه فلا بأس ، كما تقدم معنا ذكر تصريح الرسول صلى الله عليه وسلم باسم ابن جميل وما فعل من منكر .
والتشهير يأخذ صوراً شتى ، فليس بالضرورة أن يكون التشهير إعلاناً على المنبر ، بل له أساليب مختلفة ، ولنضرب لذلك مثلين ، أحدهما من القديم والآخر من الحديث .
المثال الأول :
كان لأحد المترفين في بغداد بيت تعلو منه أصوات الغناء والطرب والمزامير واللهو ، فطرق عليه بعض الصالحين الباب ، فلم يستجب ، وحاولوا ثانية وثالثة ، فلم يستجيب لهم . وكان في بغداد قاريء بكاء مؤثر حسن الصوت ، فجاء في أحد الأيام – وكان الناس مزدحمين في الشوارع – فجلس على عتبة هذا البيت الذي تعلو منه أصوات المنكرات ، وأخذ بصوته العذب الجهوري يرتل القرآن ، فاجتمع الناس إليه ، وامتلأ الشارع بهم ، وعلت أصواتهم بالبكاء والنشيج ،حتى سمعهم الذين بداخل الدار ، فخرج صاحبها وأخرج معه الطبول وسائر آلات اللهو ، وسلمها للشيخ ليكسرها بيديه .
وعلى هذه الشاكلة استطاع هذا القارىء أن يغير المنكر عن طريق التشهير ، بدون أن يتكلف وبدون أن يجافي الحكمة .
المثال الثاني :
ما فعله بعض الدعاة المعاصرين ، حين علم عن إقـامة حفل غنائي فيه لهو وطرب ومنكرات، وعجز عن إيقاف ذلك المنكر ، فما كان منه إلا أن أخبر الصالحين ، بأنه سوف يقيم محاضرةً في مكان مجاور لمكان المنكر ، وفعلاً أقام المحاضرة وأخذ يتكلم بكلام مؤثر جيد ، فانسحب الناس من مكان الحفل إلى المحاضرة ، وأوقف الحفل الغنائي .
وهكذا أوصد الباب في وجه المنكر وأهله بطريقةٍ هادئةٍ لا مأخذ فيها على المصلح .
إن هذه الوسائل ليست سوى أمثلة أو نماذج لوسائل أخرى كثيرة يمكن أن يبتكرها الغيورون لإزالة المنكرات وتغييرها وحماية المجتمع منها ، وسيجد المصلح أمامه مجالاً رحباً للتفكير في تجديد الوسائل وتنويعها متى كان جاداً منفعلاً لقضية الإسلام ، متحلياً بالعلم الصحيح الذي يفتح أمامه آفاق المجهول .

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هناسبحان الله و بحمده

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.