إنّهَا سيدةُ نِساءِ العَالمينَ في زَمَانِها
كانَتْ عاقلةً جليلةً دَيِّنةً مَصُونةً كَريمةً مِن أهلِ الجنةِ
وكانَ النبيُّ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ يُثنِي علَيهَا ويُفضِّلُها علَى سائِرِ أمّهاتِ المُؤمِنينَ
إنّها صاحبَةُ القلبِ الطّاهِرِ والنّفسِ الرّاضِيَةِ ، عاليةُ الهِمّةِ جَيّاشَةُ العَواطِفِ واسعَةُ الأفُقِ مَفطورَةٌ علَى التَّدَينِ والنّقاءِ والطّهْرِ
كانَتْ رَضِيَ اللهُ عَنهَا فِي غايَةِ الكرَمِ والجُودِ ، ضَحّتْ بكُلِّ مَا تمْلِكُ منْ أجْلِ إسْعادِ زَوجِها صَلّى اللهُ عليهِ وسَلّمَ
كانَتْ رَضِيَ اللهُ عنْهَا تُصْغِي كَثيراً إلَى أحاديثِ ابْنِ عمِّهَا ورقةَ ابنِ نَوفلٍ عنِ الأنبياءِ وعنِ الدِّينِ ، وكثيراً مَا كانتْ أحْلامُهَا المُجنّحَةُ تُرفْرفُ فِي سَماواتٍ عاليةٍ مِنَ الفضْلِ والفضِيلةِ ، لمْ تكُنْ لتصِلَ إليْهَا أمَانِي أهلِ عصْرهَا منْ رِجالٍ ونساءٍ
وفِي لَيلةٍ غارَتْ نُجومُهَا واحْلَوْلَكَ ظلامُهَا ، جَلسَتْ في بَيْتِها بَعْدَ أنْ طافَتْ مِراراً بالكَعْبَةِ
عِنْدَئِذٍ ذهبَتْ إلى فِراشِها وقدِ ارْتَسمَتْ علَى شَفتيْهَا عَلائِمُ الرِّضا والاِبتسامِ ومَا أسلَمَتْ جَنبَهَا للرُّقادِ حتَّى اسْتَسلَمَتْ للنّومِ ورَاحَتْ في سُباتٍ
فرَأتْ فِيمَا يَرَى النّائِمُ شَمْساً عَظيمَةً تَهْبِطُ مِنْ سَمَاءِ مَكّةَ لِتَسْتَقِرَّ فِي دَارهَا وتَمِلأَ جَوانِبَ الدّارِ نُوراً وبَهاءً
ويَفيضُ ذَلكَ النُّورُ منْ دَارهَا ليغمُرَ كُلَّ مَا حوْلَهَا بِضياءٍ يُبهِرُ النّفُوسَ قبلَ أنْ يُبهِرَ الأبْصارَ بشدَّةِ ضِيائِهِ
هَبّتْ مِنْ نومِهَا تُديرُ عَيْنَيْهَا فيمَا حَولَهَا بِدَهشَةٍ فإذَا باللّيلِ مَا يَزالُ يُسربِلُ الدّنيَا بالسّوَادِ بَيْدَ أنَّ ذلكَ النورَ الذِي بَهرَها فِي المنامِ لا يَزالُ مُشرِقاً في وِجْدانِهَا سَاطعاً فِي أعْماقِهَا
وعِندَمَا غادَرَ اللّيلُ غادَرَتْ فِراشَهَا ومعَ إشرَاقَةِ الشّمسِ وصَفاءِ الكونِ فِي الصّباحِ الباكرِ كانتِ الطّاهرَةُ فِي طريقِها إلَى دارِ ابْنِ عَمّهَا ورَقَةَ بنِ نوفلٍ لَعلّهَا تجدُ عندَهُ تفْسيراً لحُلْمِها البَهِيِّ فِي ليْلتِها المَاضِيةِ
دَخلتْ علَى ورَقةَ وقصَّتْ عليهِ ما رَأتْ في مَنامِها وكانَ ورقةُ يُصغِي إليهَا باهْتمامٍ ومَا أنِ انْتَهتْ منْ كلامِهَا حتَّى تَهلّلَ وجهُهُ بالبِشْرِ ثمَّ قالَ فِي هُدوءٍ ووَقارٍ : أبْشرِي يَا ابنةَ العَمِّ لوَ صَدقَ اللهُ رُؤياكِ لَيدخُلَنَّ نُورُ النُّبُوّةِ دارَكِ ولَيَفِيضَنَّ مِنْهَا نورُ خاتمِ النَّبِيّينَ ظَلّتْ تَعيشُ علَى رَفْرَفِ الأملِ وعَبِيرِ الحُلمِ الذِي رَأتهُ فعَسَى أنْ تَتحَقّقَ رُؤيَاهَا
وكَانَ إذا تَقَدّمَ إلَيْهَا خاطبٌ تقِيسُهُ بمِقياسِ الحُلمِ وكلامِ ابنِ عمِّهَا ورَقةَ ابنِ نوفلٍ وإذَا لمْ تَنطَبِقْ علَيهِ الصّفاتُ كانتْ تَرُدّهُ ردّاً جميلاً وتُخبِرهُ أنّهَا لا تَوَدّ الزّواجَ
إنّهَا الزّوجَةُ الصّالحَةُ أحَبّتْ زَوجَها صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ حُبّاً مَلكَ عَليهَا كُلَّ مَشاعِرِهَا ضَحّتْ بكُلِّ ما تمْلِكُ منْ مالٍ منْ أجلِ زوجِهَا وحبِيبِها صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ و وَقفَتْ معهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ فِي وجْهِ العَاصِفةِ وتَحمّلَتِ الأذَى والمَشقّةَ لِتُؤازِرَهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ وتَقفَ خَلفَهُ لِيتمَكَّنَ منْ نشرِ دعوةِ الإِسْلامِ بينَ قومِهِ ثُمَّ فِي جميعِ أنحاءِ المَعمُورَةِ ولِيُقيمَ دولةَ الإسْلامِ
إنَّهَا خديجةُ بنتُ خُويلدٍ رضيَ اللهُ عَنْها
إنَّ أخْبارَهَا دواءٌ للقلوبِ وجَلاءٌ للألبَابِ مِنَ الدّنَسِ والعُيوبِ ، وقُدوَةٌ فِي زمنٍ كادَتِ القُدوَاتُ فيهِ أنْ تغيبَ
بِسيرتِها تَحْيَا القلوبُ وبِاقتِفاءِ آثارِهَا تحصُلُ السّعادَةُ وبِمعرفَةِ مَناقِبهَا تسْمو الهِمَمُ للتّحَلّي بجميلِ الخصالِ ونبيلِ المآثرِ والفعالِ
فهيا لنعيشَ بقلوبنا معَ قِصّةٍ منْ أعظمِ القِصَصِ
أمُّ القاسمِ ابْنةُ خُويْلِدٍ بنِ أسدٍ القُرَشيّةُ الأسدِيّةُ
أوَّلُ مَنْ آمَنَتْ باللهِ منَ النِّساءِ وهيَ أوّلُ مَن صَلّتْ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وأوَّلُ مَن رُزقَ مِنْها الأولادَ وَأوّلُ منْ بشَّرَها بالجَنّةِ مِنْ أزواجِهِ وَأوّلُ مَنْ أقْرَأهَا رَبُّهَا السّلامَ وأوَّلُ صِدّيقَةٍ مِنَ المُؤمنَاتِ
قالَ ابْنُ إسحاقَ : وكَانَتْ خديجةُ بِنتُ خُوَيلدٍ امْرَأةً تاجِرَةً ذاتُ شرَفٍ ومالٍ . تَستَأجرُ الرّجَالَ فِي مَالِهَا وتُضارِبُهُم إيّاهُ ، بِشيءٍ تَجعَلُه لَهُم ، وكَانَتْ قُرَيشُ قَوماً تُجّاراً ؛ فَلَمّا بَلَغَها عَنْ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ مَا بَلغَهَا ، مِنْ صِدْقِ حَديثِهِ ، وَعِظَمِ أمَانَتِهِ ، وَكرَمِ أخْلاقِهِ ، بعَثَتْ إليهِ فعَرَضَتْ عليهِ أن يخرُجَ في مالٍ لهَا إلَى الشّامِ تَاجِراً ، وتُعطِيهِ أفضَلَ ما كَانتْ تُعطِي غيرَهُ منَ التُّجَّارِ ، مَعَ غُلامٍ لَها يُقالُ لهُ مَيْسَرةُ ، فَقِبِلُه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ مِنهَا ، وخَرجَ فِي مالِهَا ذلكَ ، وخَرجَ معهُ غُلامُها مَيسَرةُ حتّى قَدِمَ الشّامَ .
فَنزَلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ فِي ظلِّ شجرَةٍ قريباً مِن صَومَعةِ رَاهِبٍ مِنَ الرُّهبانِ ، فاطَّلَعَ الرّاهبُ إلى مَيسرَةَ ، فقالَ لهُ : منْ هَذا الرّجُلُ الذِي نزلَ تحتَ هذهِ الشّجرَةِ ؟ قَال لَهُ مَيسرَةُ : هَذا رَجلٌ منْ قُريشٍ منْ أهلِ الحَرمِ ؛ فقالَ لهُ الرّاهبُ : مَا نزلَ تحتَ هذِهِ الشَّجرَةِ قَطُّ إلاَّ نَبِيٌّ .
ثُمَّ بَاعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ سِلعتَهُ التِّي خَرجَ بِهَا ، وَاشْتَرَى ما أرَادَ أنْ يشتَرِي ، ثُمَّ أقْبلَ قَافِلاً إلَى مَكةَ ومَعهُ مَيسرَةَ . فكانَ مَيسرَةُ – فِيمَا يَزعُمُونَ – إذَا كانَتِ الهَاجِرَةُ واشْتدَّ الحَرُّ ، يَرَى مَلكَيْنِ يُظِلاّنِهِ مِنَ الشّمسِ – وهُو يسيرُ علَى بَعيرِهِ . فلمَّا قدِمَ مَكّةَ عَلى خدِيجَةَ بِمالِها ، بَاعَتْ ما جاءَ بِهِ ، بِأضعَفَ أو قَريباً .
وحَدّثهَا ميسرَةُ عن قولِ الرّاهبِ ، وعَمّا كانَ يَرى مِن إظلالِ المَلكَينِ إيَّاهُ . وكانَتْ خديجةُ امرَأةً حازِمَةً شريفَةً لَبيبَةً ، مَعَ ما أرادَ اللهُ بهَا مِن كرَامَتِهِ ، فلَمَّا أخبَرَهَا مَيسرَةُ بمَا أخبرَهَا بهِ بَعثَتْ إلَى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ ، فقالَتْ لهُ – فيمَا يَزعُمونَ – يَا ابنَ عَمّ . إنِّي قَد رَغِبتُ فِيكَ لقرَابَتكَ ، وسِطتِكَ في قَومِكَ وأمَانتِكَ وحُسنِ خُلُقكَ ، وصِدْقِ حَديثِكَ ، فَكانَ أنْ عَرَضتْ عَليهِ نفْسَهَا . وكَانتْ خديجةُ يَومئِذٍ أوْسطَ نِساءِ قريشٍ نَسباً ، وأعْظمَهُنَّ شَرفاً ، وأكْثرَهُنَّ مَالاً ؛ كُلُّ قَومِهَا كانَ حَريصاً علَى ذلكَ مِنهَا لوْ يَقدِرُ عليهِ .
فَلَمَّا قالَتْ ذلِكَ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ ذكرَ ذلكَ لأعْمَامِهِ فخرَجَ مَعهُ عَمُّهُ حَمزَةُ بنُ عبدِ المُطَّلبِ ، رضِيَ اللهُ عنهُ ، حَتّى دَخلَ عَلَى خُويلِدِ بنِ أسدٍ ، فَخطَبَها إليهِ ، فَتزَوّجَهَا .
قالَ ابنُ هشامٍ : وأصْدَقَهَا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ عِشرينَ بَكرةً ، وكانَتْ أوَّلَ امرَأةٍ تَزوّجَها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ ، ولَمْ يتزَوَّجْ عَليهَا غيرَهَا حَتَّى مَاتتْ ، رَضيَ اللهُ عَنهَا .
وُقُوفُها فِي وَجهِ العَاصفَةِ معَ زوجِهَا النَّبيِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ
عِندَمَا نزلَ الوحيُ بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ ، دَخلَ يَرتجِفُ علَى خديجةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا فقالَ : زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي
فَزَمَّلتُهُ حَتَّى ذَهَبَ عنهُ الرَّوعُ فأخْبَرَها بِمَا رَأى فَقالَتْ لهُ : أبْشِرْ فَوَاللهِ لاَ يُخزيكَ اللهُ أبداً ، إنَّكَ لتَصلُ الرّحمَ وتَصدُقُ الحَديثَ وتَحمِلُ الكَلَّ وتَكسِبُ المَعدُومَ وتُقْري الضَّيفَ وتُعِينُ عَلَى نَوائِبِ الحَقِّ
وكَانتْ رَضيَ اللهُ عَنها تُواسِيهِ وتُثَبِّتُهُ وتُخَفّفُ عنهُ وتُهوِّنُ عَليهِ أمرَ النّاسِ ومَا يُلاقِيهِ مِن أصْنافِ الأَذَى مِنَ الكُفّارِ
فَهيَ مِثالٌ رائِعٌ يُحتذَى بهَا لِنكونَ عَوناً لِـأزْوَاجنا الذِينَ يُجاهدونَ لـنُصرَةِ هَذا الدِّينِ