سمات
د.عبدالرحمن أقرع
المدير العام لشبكة الزهراوي الطبية
د.عبدالرحمن أقرع
المدير العام لشبكة الزهراوي الطبية
هنا رقدت (سمات) رقدتها الأخيرة ، وعلى هذا السرير شخصت ببصرها للمرة الأخيرة نحو السماء في نظرة وداع للروح التي غادرت الجسد المنهك نحو عالم أبدي ريان بالحياة موسوم بالخلود، ليبكيها كل من أحبها ، ولم يعرف سمات أحد إلا وأحبها إلى درجة الشغف ، فهي امرأة تقمصت جسد طفلة، وطفلة زهت بسحر امرأة مشت الهوينى على دروب الحياة لثلاثة عشر ربيعا لتنتقل روحها بعذاك إلى حيث رياض الخلود الأبدي لتتدرج على دروب الفراديس التي لم يرها من الخلق أحد .
دخلت إلى المشفى القديم ذي الأسوار التي تشبه قلاع المماليك، وارتقت السلالم الحجرية بإرهاق باد تستقطعه لحظات للراحة عند كل درجة يضيق عليها النفس الذي أعاقه المرض الخبيث من إنعاش الجسد الطفولي الذي كانا ناضرا إلى ما قبل زمن وجيز.. كانت الدرجات القديمة تتعالى إلى حيث قسم الأطفال على اليمين ، وعلى اليسار برز من تخوم الأرض ضريح رجل أسس المشفى قبل قرن من الزمان كما يذكر الرواة في تناقض واضح بين رسالة الحياة التي يحملها المشفى ومعالم الموت التي تطل متطفلة على ركب الحياة .
كانت جلسات العلاج الكيماوي مضنية ، تتلوها سويعات من الألم والغثيان والتقيؤ ممعنة في اذبال الزهرة التي تفتحت للحياة لتزيد بهاء البستان الأرضي ، وتنشر عبير الجمال في حنايا العيش الدنيوي بابتسامة لم تكن تخبو إلا مع اشتداد الألم ، وعذوبة أحاديث لم يكن يقطعها إلا هاجس الموت الذي كان يفرض نفسه عند موت أحد النزلاء دون أن تتمكن أمها الحكيمة من إخفاء الخبر عنها ، وان اجتهدت بعدذاك في تخفيف وطء الفاجعة عنها ، وطرد شبح الهواجس.
ربما كان أسعد أيام إقامتها في المشفى المذكور هو ذلك اليوم الذي قدم فيه (رفعت ) ،شريك قدرها في المكوث تحت قهر السرطان ، فقد كان نفس الهاجس يطارد روحيهما ، وذات الحقن تسكب في أوردتهما ، فكان أن ألف كلاهما لصاحبه ، وانعقدت عرى الحب الطفولي بينهما في صورة زخرف الأهل جماليتها بأحاديث مرحة عن مصاهرة مستقبلية في كذب صريح على الذات وهم يعلمون إن قدريهما بقدر ما يقتربان من بعضهما بعضا فهما يبتعدان عن خضم الحياة إلى شواطيء غير مرئية ، لا تمكن أحد منهم من الفرح بالعرس المتخيل ولا من تقديم هدية زواج.
-(لا ينبغي التهاون في تركهما معا ، فهما على أعتاب سن حرجة) قالت إحدى الممرضات.
-(يا لله ) ابتسم الطبيب بمرارة محاولا كبت دمعة ألحت في الانسياب على خده المتغضن فمسحها بكم ملاءته البيضاء وتابع : ( لا تخشي ضيرا يا أختاه ، فهما حقا على أعتاب سن حرجة ، ولكنهما لن يتجاوزا الأعتاب )
-(الأعمار بيد الله ، فلماذا كل هذا التشاؤم)
ازدادت ابتسامة الطبيب مرارة وهم بالانصراف من غرفة التمريض إلا أن الممرضة استوقفته كمن تذكرت أمرا ، وقالت: ( بالمناسبة ، سمات ترفض أخذ الحقنة إلا في وجودك).
-(حسنا..أنا متوجه إلى غرفتها الآن)
واستكانت (سمات) للطبيب الذي أفرغ قارورة الدواء الثقيل في وريد يديها ، وقد طفح وجهها الباهت بشرا لحنانه الأبوي ، فهو الذي شاطرها أحاديث شتى عن كراس الرسم ، ويوميات المدرسة ، وأقتادها وأمها بعيدا عن مسرح الموت كلما أمر القدر بمغادرة نزيل من نزلاء القسم إلى حيث لا يرجع أحد.
وعندما أفاقت (سمات ) ذات صباح ، كان سرير (رفعت) فارغا ، وعندما سألت عنه كان الجواب المفبرك جاهزا : (لقد سافر إلى الخارج لاستكمال العلاج)، كذبة اشترك في صياغتها وإخراجها الأهل والطاقم الطبي معا بمهارة دفعت (سمات ) للقول عاتبة : (كيف سافر ولم يودعني).
وبعد عامين من رحيل (رفعت) قمت بزيارة (سمات) وجلست إلى جانب سريرها للحظات مبتهجا أنها كافحت لصد الوجه الأسود للموت حولين كاملين في تشبث فطري بالحياة. ثم وعدتها بزيارة قريبة ، وانصرفت هابطا السلم الحجري بخفة ليكون القسم عن يساري وقبر المؤسس عن يميني وأمامي الشارع الغاص بالحياة والضجيج .
وبعد أسبوعين يممت لزيارة( سمات) ، وابتعت في طريقي قرنفلة حمراء ، وعلى مدخل الطواريء جالست صديقا من الأطباء حدثني في أمور شتى بعد أن أنهى مناوبته الطويلة ، وإذ سرقنا الوقت أرجأت الزيارة إلى يوم آخر.
وفي اليوم الذي تلاه حمل إلي هاتفي النقال صوت الطبيب الصديق عينه بتهدج أوجف القلب وسرى الوجوم إلى نفسي قبل أن تنقل لي كلماته نعي (سمات) التي أسلمت الروح على سريرها في المشفى القديم في صباح شباطي تلبدت فيه سحب الشتاء السوداء مثقلة بالمطر وحبلى بحزن تمخض عن وفاة (سمات).
دخلت إلى المشفى القديم ذي الأسوار التي تشبه قلاع المماليك، وارتقت السلالم الحجرية بإرهاق باد تستقطعه لحظات للراحة عند كل درجة يضيق عليها النفس الذي أعاقه المرض الخبيث من إنعاش الجسد الطفولي الذي كانا ناضرا إلى ما قبل زمن وجيز.. كانت الدرجات القديمة تتعالى إلى حيث قسم الأطفال على اليمين ، وعلى اليسار برز من تخوم الأرض ضريح رجل أسس المشفى قبل قرن من الزمان كما يذكر الرواة في تناقض واضح بين رسالة الحياة التي يحملها المشفى ومعالم الموت التي تطل متطفلة على ركب الحياة .
كانت جلسات العلاج الكيماوي مضنية ، تتلوها سويعات من الألم والغثيان والتقيؤ ممعنة في اذبال الزهرة التي تفتحت للحياة لتزيد بهاء البستان الأرضي ، وتنشر عبير الجمال في حنايا العيش الدنيوي بابتسامة لم تكن تخبو إلا مع اشتداد الألم ، وعذوبة أحاديث لم يكن يقطعها إلا هاجس الموت الذي كان يفرض نفسه عند موت أحد النزلاء دون أن تتمكن أمها الحكيمة من إخفاء الخبر عنها ، وان اجتهدت بعدذاك في تخفيف وطء الفاجعة عنها ، وطرد شبح الهواجس.
ربما كان أسعد أيام إقامتها في المشفى المذكور هو ذلك اليوم الذي قدم فيه (رفعت ) ،شريك قدرها في المكوث تحت قهر السرطان ، فقد كان نفس الهاجس يطارد روحيهما ، وذات الحقن تسكب في أوردتهما ، فكان أن ألف كلاهما لصاحبه ، وانعقدت عرى الحب الطفولي بينهما في صورة زخرف الأهل جماليتها بأحاديث مرحة عن مصاهرة مستقبلية في كذب صريح على الذات وهم يعلمون إن قدريهما بقدر ما يقتربان من بعضهما بعضا فهما يبتعدان عن خضم الحياة إلى شواطيء غير مرئية ، لا تمكن أحد منهم من الفرح بالعرس المتخيل ولا من تقديم هدية زواج.
-(لا ينبغي التهاون في تركهما معا ، فهما على أعتاب سن حرجة) قالت إحدى الممرضات.
-(يا لله ) ابتسم الطبيب بمرارة محاولا كبت دمعة ألحت في الانسياب على خده المتغضن فمسحها بكم ملاءته البيضاء وتابع : ( لا تخشي ضيرا يا أختاه ، فهما حقا على أعتاب سن حرجة ، ولكنهما لن يتجاوزا الأعتاب )
-(الأعمار بيد الله ، فلماذا كل هذا التشاؤم)
ازدادت ابتسامة الطبيب مرارة وهم بالانصراف من غرفة التمريض إلا أن الممرضة استوقفته كمن تذكرت أمرا ، وقالت: ( بالمناسبة ، سمات ترفض أخذ الحقنة إلا في وجودك).
-(حسنا..أنا متوجه إلى غرفتها الآن)
واستكانت (سمات) للطبيب الذي أفرغ قارورة الدواء الثقيل في وريد يديها ، وقد طفح وجهها الباهت بشرا لحنانه الأبوي ، فهو الذي شاطرها أحاديث شتى عن كراس الرسم ، ويوميات المدرسة ، وأقتادها وأمها بعيدا عن مسرح الموت كلما أمر القدر بمغادرة نزيل من نزلاء القسم إلى حيث لا يرجع أحد.
وعندما أفاقت (سمات ) ذات صباح ، كان سرير (رفعت) فارغا ، وعندما سألت عنه كان الجواب المفبرك جاهزا : (لقد سافر إلى الخارج لاستكمال العلاج)، كذبة اشترك في صياغتها وإخراجها الأهل والطاقم الطبي معا بمهارة دفعت (سمات ) للقول عاتبة : (كيف سافر ولم يودعني).
وبعد عامين من رحيل (رفعت) قمت بزيارة (سمات) وجلست إلى جانب سريرها للحظات مبتهجا أنها كافحت لصد الوجه الأسود للموت حولين كاملين في تشبث فطري بالحياة. ثم وعدتها بزيارة قريبة ، وانصرفت هابطا السلم الحجري بخفة ليكون القسم عن يساري وقبر المؤسس عن يميني وأمامي الشارع الغاص بالحياة والضجيج .
وبعد أسبوعين يممت لزيارة( سمات) ، وابتعت في طريقي قرنفلة حمراء ، وعلى مدخل الطواريء جالست صديقا من الأطباء حدثني في أمور شتى بعد أن أنهى مناوبته الطويلة ، وإذ سرقنا الوقت أرجأت الزيارة إلى يوم آخر.
وفي اليوم الذي تلاه حمل إلي هاتفي النقال صوت الطبيب الصديق عينه بتهدج أوجف القلب وسرى الوجوم إلى نفسي قبل أن تنقل لي كلماته نعي (سمات) التي أسلمت الروح على سريرها في المشفى القديم في صباح شباطي تلبدت فيه سحب الشتاء السوداء مثقلة بالمطر وحبلى بحزن تمخض عن وفاة (سمات).