كانت إحدى أخواتنا الحبيبات قد شكت سابقاً من أنه من زار بيت الله الحرام مرة، ازداد شوقاً له أضعافاً مضاعفة
فقلت في نفسي حينها ؛ الله يرزقنا زيارته مرة ، و بعدها نبحث عن حل لمشكلة الشوق تلك
لا يسعني اليوم إلا أن أقول : صدقتِ يا غالية ..
كنت بداية عودتي من رحلة العمر هذا العام، أرفض التحدث عنها .. أشعر أنها خاصة جداً ؛ بيني و بين ربي .. كما و أنها أكبر من أن أعبر عنها بكلمات..
حتى أن إحدى صديقاتي استاءت مني عندما اكتفيت بـ "رائع، أنصحك به" إجابة على سؤالها : كيف كان الحج؟
حنيني اليوم يدفعني إلى مشاركة أغلى الأخوات بأغلى الذكريات
لعلي إن كتبت عنها جددت العزم و أجبت عن بعض التساؤلات التي لا بد و أن البعض يحدث نفسه بها كما كانت تحدثني نفسي ..
بصراحة لا أدري من أين أبدأ .. المشاهد تتدافع في رأسي و المشاعر الجياشة تغالب يميني ..
بداية الرحلة
لنبدأ من مطار البلد الأوروبي الذي أقيم فيه، حيث تجمعنا صباحاً استعداداً لاستقلال الطائرة، وسط نظرات استغراب و استهجان
ماذا يحصل ، من أين أتى كل أولئك المسلمون ؟ غزو إسلامي ( آمين يا رب )
أكثر من أربعين جنسية مختلفة، يجمع بينها ابتسامة عريضة تعلو الوجوه
نحن في طريقنا من بلاد الكفر إلى البلاد المقدسة !!
البعض تجمهر حول مفتي البلاد الذي كان يرافقنا : يا شيخ هل ننوي الآن ؟ يا شيخ متى نعتمر ؟ يا شيخ عندي حالة خاصة…
البعض بدأ حملة تعرف جماعية : أول مرة تحج ؟ أنا فلان و أعمل كذا.. تقابلنا مرة عند فلان، هل تذكرني؟ ممكن تترجم لي كلام الأخ لو سمحت..
و البعض يقف صامتا بعيون مثبتة على باب الدخول إلى قاعة الإنتظار الأخيرة ..
صورة واقعية رائعة لـ "وجعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا"
في الواقع، الأمر الذي استرعى انتباهي، أننا قد انتظرنا وقتاً لا بأس به، و رغم أن المقاعد الخالية كانت متوفرة، إلا أن أحدا لم يقربها ! الجميع في حالة تأهب
ثم فجأة اخترق جو الألفة هذا صوت رجل أجنبي يصيح بأعلى صوته : تحيا إسرائيل تحيا إسرائيل!
مئة و أربعون مسلم كنا. لم ينبث أحدنا ببنت شفة.
رفع الشيخ يده إشارة إلى عدم الاستجابة لإستفزازاته.. ساد الصمت حوالي دقيقة ريثما انصرف ذاك السفيه، ثم عادت الروح من جديد و كأن شيئاً لم يكن.
ابتسمتت في نفسي ‘ سبحان الله ، بدأت سمات الحجاج تظهر على القوم ‘
وساوس الشيطان
الحج بالنسبة لكل مسلم بشكل عام، و لمن يعيشون بعيداً بشكل خاص، حلم كبير، و للأسف، أحيانا بعيد ..
كانت تتواجد أكثر من عقبة أساسية تقف دون أدائي لفريضة الحج كل السنوات الفائتة، و لكن سبحان الله ، عندما يأذن الله تعالى ، تتذلل الصعاب كلها معاً بشكل غريب.
هنا يأتي إبليس اللعين لكي يفسد على المسلم فرحته و يهبط من معنوياته، فلا يستقبل الحدث العظيم بما هو أهل له من تحضير كالتوبة و العزم و تكثيف العبادة..
بعد أن بدأت أصدق أنني متوجهة إلى الحج فعلا بمشيئة الله ، بدأت تساورني الوساوس و تنتابني الشكوك :
هل ممكن أن يمن الله علي أنا من بين كل الناس بالحج؟ هل أستحق ؟ لعلها سوف تحسب حجة علي لا لي ..أم لعل شيئا سوف يحدث و لن أتمم مناسك الحج أصلا ؟ لعل هناك ثغرة قد أبطلت الحجة من قبل أن تبدأ :
هل دفع زوجي مصاريف الحجة بسيف الحياء ؟ هل علينا دين لم يقضى و قد نسيناه؟ هل كنت قد ظلمت أحدا منذ سنين و نسيت
شكوك و أفكار لا أساس لها ، كلها مفادها أن الحجة إن تمت فلن تقبل..
وساوس من الشيطان أفسدت علي فرحتي، و منعتني من إعداد نفسي روحياً قبل الذهاب
مدخل آخر من مداخل الشيطان قد تعرفت عليه عملياً للمرة الأولى، فاحذروا منه ، لأنه كفيل بأن يفسد على المرء أي شيء ..
يريد الله بنا خيراً
الأمر الآخر الذي ساهم في عدم استشعاري بالتوجه للحج بعد طول انتظار، هو أن بالي كان منشغلاً تماماً بموضوع خاص
لدرجة أنهم كانوا يلبون و يهللون في الطائرة ثم في الحافلة في طريقنا إلى مكة، و لا أردد معهم ‘لبيك اللهم لبيك’، فما فائدة أن يرددها اللسان و الفكر مشغول بغير ذلك ؟..
كان الشيخ كلما حدثنا قال " لم يأتِ الله تعالى بكم إلى هنا إلا لأنه يريد بكم خيراً، فاغتنموا الفرصة."
فكنت أشعر بمرارة و أقول في نفسي، أي خير يا شيخ و أنا على هذا الحال ؟..
سبحان الله، لقد تمكن مني الشيطان الرجيم و أقنعني تماما أنه لا فائدة ترتجى من هذه الحجة "الغير مقبولة" من قبل أن أحرم أصلا !!
ولكن لا أخفيكم أن هذه العبارة كانت تهزني في أعماقي و تشعرني بقرب الله و رحمته، و تجعلني أعيد النظر في حالي
‘ يريد الله بكم خيراً ‘
نقطة التحول
بعد حوالي 36 ساعة سفر متواصل، وصلنا إلى مكة في وقت متأخر من الليل منهكين
و قد كنت في حالة نفسية سيئة جداً بسبب أفكاري و أحاسيسي المتداخلة
قررت مجموعة صغيرة أن تعتمر مباشرة، فرجوت زوجي أن نكون معهم، و توجهنا إلى الحرم
بهرني منظر الحجاج المتجهين إلى الحرم من كل حدب و صوب بكل عزم و نشاط في ذلك الوقت المتأخر من الليل
قال لنا المرشد أنه يفضل أن نغض الطرف لكي تكون أول نظرة للكعبة عن قرب و ندعو الله عندها، فأغمضت عيناي فوراً – ونحن ما زلنا في الشارع – و ضحكوا مني
و لكنني كنت مترقبة جدا لتلك اللحظة.. و أخيراً ولد الشوق لرؤية بيت الله الحرام ، و راح يزداد مع كل خطوة، وبدأ القلب يخفق بشدة عند وصولنا لبوابة الحرم الخارجية
أحسست بـ غشيتهم الرحمة و حفتهم الملائكة
أحسست بـ ولتصنع على عيني
هنا بإذن الله سوف أبدأ حياتي من جديد
لبيك اللهم لبيك
"إفتحي عينيكِ الآن" ففتحت و حبس النفس
سوف تضحكون إن قلت أن أول شعور انتابني هو أنني ‘داخل الإطار’ !
إطار صورة الحرم المكي الشريف التي لطالما تأملتها بحب و سافرت إليها بأحلامي المشتاقة
أنا "هناك"! إنها حقيقة ..
مر بذاكرتي شريط سريع لكل سنوات العمر التي تاقت فيها النفس للحج، تذكرت كم من الدموع ذرفت شوقا لهذا الموقف، و كم من النقاشات و الحسابات و التخطيطات أعدت عبر السنين للوصول إلى هنا..
كله لأجل الحلم الكبير البعيد.. و الآن و قد صار حقيقة أقول : إنه ليستحق !
تم أفقت : آه يا ربي الدعاء عند أول نظرة… ماذا كان ذاك الدعاء الذي قد اخترته بدقة لهذا الموقف و حفظته عن ظهر قلب ورددته مئات المرات.. الدعاء يا ربي قبل ان أصبح في النظرة السبعين
تذكرت الدعاء.. رددته مرة، اثنان، ثلاثة.. غيره؟ لا أعرف ، لا أذكر ! يبدو أنني لا زلت في حالة ذهول.. لا مشكلة، فلأكرر الدعاء ذاته و لكن بصدق أكثر و إخلاص أشد
بدأنا الطواف.. و كأنني أطوف بروحي، شعرت بها كأنما كانت سجينة و انطلقت ، هنا ملاذها ، هنا تشعر بالطمأنينة
لا زلت أكرر الدعاء ذاته، و لكنني أشعر بكل حرف منه الآن
هذه هي فرصة العمر.. هنا لا شيء مستحيل، فهنا أخاطب رب السماوات و الأرض
هل يعجز ربي أن يبدل حالي ؟ حاشا لله .. ما علي سوى معاهدته على السمع و الطاعة
لا شريك و لا هوى و لا أنداد .. لبيك في الإلتزام و لبيك في الصبر
و لأول مرة وجدت نفسي أرددها بإخلاص و شوق و عزم متزايد … و بِشر
"لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك"
بيت الله
أجمل معنى استشعرت به هناك، هو ‘بيت الله الحرام’
كانت كلمة حفظتها و قرأت عن مدلولها، و لكنني هناك لمستها و ذقت حلاوتها، ففهمتها : أنا في ضيافة الله سبحانه و تعالى؛ في بيت الكريم
كيف يكون حال أحدنا عندما يزوره ضيف ؟ يقدم له الأفضل و يكرمه أشد إكرام، حتى و إن كان بينه و بين هذا الضيف شيء من الجفا، فهو في بيته ، و الإكرام حقه
ولله المثل الأعلى .. أكرم الأكرمين و أجود المعطين ، الغني المغني الجواد مالك الملك ذو الجلال و الإكرام
هل يرد من قصد بيته ؟ هل يمنع من سأله في بيته ؟ حاشا لله
هذا المعنى جعلني أدعو بيقين في الإجابة، و هو برأيي الشرط الأصعب تطبيقا من شروط الدعاء
أحيانا ندعو بأمر عظيم، و لكن في سرنا صوت يقول : الدعاء وحده لن يجدي
رفعت يداي بالدعاء الذي لطالما رددته في الصلاة و القيام وعند الإفطار و عند نزول المطر و في السفر و في كل حال ..
ولكنني للمرة الأولى أدعوه و في نفسي يقين بالإجابة ،، فأنا في ‘بيت الله الحرام’
هل يكفي الدعاء ؟
الدعاء إن تحققت فيه الشروط و الآداب، و زاد على ذلك صدوره عند بيت الله الحرام، هل يكفي لكي يصلح الشأن و يغير حال أوصلت إليه سنين طوال ؟
كنت أدعو مع يقين بإجابة رب العالمين، و هذا الشعور وحده يبعث في النفس طمأنينة لا مثيل لها ..
والله الذي لا إله إلا هو، أدعو و أرى الإستجابة مباشرة !
كنت أستشعر فعلا معاني صفات الله تعالى : الغني، المغني، القادر، مالك الملك، مصرف القلوب
ألم تتمنوا كثيراً ان تصلوا إلى حال من الرضا و غنى النفس ؟
ألم تتمنوا أن تصلوا إلى حال يغنيكم عن الدنيا و ما فيها.. يغنيكم عما نقص أو زاد، عمن حضر أو غاب ، عما وجد أو فقد ؟
أقسم لكم أنني قد شعرت بهذا الشعور، و أنا الأمة المذنبة التي لم تكن تقوى على ترديد كلمة لبيك منذ أيام ..
شعرت مثل الطفل الذي كان تائهاً في دروب شائكة في عاصفة هوجاء، ثم عاد إلى حضن أمه ..
هنا الأمان هنا الحب هنا الدفء .. هنا اطمأنت النفس و سكن الفؤاد و رسم الوجه ابتسامة حقيقية و أبصرت العين مستقبلاً وردياً ..
كنت سعيدة بالقرب منه، و لا أرجو سوى دوام ذاك الحال، لدرجة أنني كنت أرغم نفسي إرغاماً على الدعاء بحاجاتي الدنوية التي كنت قد أعددتها مسبقاً في قائمة طويلة.
والله لولا أنني أقنع نفسي بالمنطق أن هذا مكان يستجاب فيه الدعاء و يجب اغتنام تواجدي هنا على أفضل وجه، لما دعوت إلا ‘يا واصل المنقطعين أوصلني إليك، و أحسن وقوفي بين يديك’
أما العلاقات و الحاجات و الأطفال و الأعمال ، فما حاجتي إليها إن دام هذا الأنس بالله ؟
و الأمر الذي كان يشغل فكري، و المشاكل و العوائق، لم أنسها لحظة ، ولكن تحولت نظرتي إليها : صرت أراها باب قربى إلى الله، و الصبر يهون في سبيل هذا الأنس بالله ..
و لكن هل يدوم الأنس بالله و أنا لم أكتسبه بمجهود ؟ لم أقدم سوى الدعاء بصدق في خير مكان ..
حسب تجربتي، الدعاء يفتح الصفحة البيضاء(المغفرة)، و يسكن النفس و يملؤها همة(الرضا و العزم)، و يعطي مفاتيح تغيير الحال، و يبقى على العبد أن يثبت على الدرب مستعيناً بالصبر و الصلاة (العبادة).
لعل الحج لعظمته و شموله على كثير من العبادات، يذيق الحاج حلاوة الصبر على الطاعات و العبادات
كأنما هي رسالة من الله : أخلصت أياماً ، أذقناك الحلاوة أياماً . إلزم هذا الدرب و استقم ، نبدل حالك ما حييت ..
قوة مضاعفة
سمعت كثيراً قبل توجهي إلى هناك عن إكرام الله تعالى للحاج بطرح البركة في قوته البدنية و صحته، و بالفعل سبحان الله لمست ذلك، خصوصا بالنسبة لساعات النوم القليلة جداً التي كانت تكفينا.
أعاني من صداع نصفي(الشقيقة) أكبر أعدائه الشمس، مما يجعلني أتجنبها قدر الإمكان، إذ أن حتى الدقائق المعدودة تضرني.
سبحان الله، هناك اعتمرت وقت صلاة الظهر ، و كنت أمضي معظم فترة الظهيرة في الشمس، و لم أشتكي من الصداع النصفي ولا يوم !
كان معنا في الحملة رجل في العقد الثامن من عمره، سقط مغشياً عليه من التعب في طريقنا من أوروبا إلى السعودية .
لا زلت أتساءل كيف أتم هذا الرجل و الكثير من أمثاله، الطواف و السعي في ظل الإزدحام الشديد هذا العام، و أنا الشابة كادت تزهق روحي عدة مرات !
الباص رقم واحد
كما أسلفت ، كنا حوالي 140 شخص، وزعنا على ثلاث حافلات حسب أرقامنا (استعيض عن أسمائنا برقم ثابت لكل منا).
في طريقنا من المدينة إلى مكة، حصل إشكال مع إحدى راكبات الباص رقم واحد، فاضطرت الحافلتان الأخريان للانتظار أربع ساعات ريثما سوي الأمر و انطلقنا..
ما هي إلا حوالي ساعة حتى توقف بنا السائق من جديد : الزجاج الأمامي مكسور و يجب استبدال الحافلة .. ساعة إضافية ريثما أحضرت لنا الحافلة رقم واحد البديلة..
في جولتنا لزيارة مسجد قباء و جبل أحد و غيرها ، اصطدمت حافلتنا العزيزة رقم واحد بحافلة تابعة لحملة أخرى، فاضطر الجميع للانتظار ريثما سويت القضية و هدأت الأنفس..
ثم الختام المسك كان في طريقنا من مكة إلى المدينة.. الطريق خالٍ و طويل و الجميع نيام و أنا أتأفف في نفسي يا الله أمامنا سبع ساعات من هذا الملل و إذ فجأة .. بوووممممم.. بدأت الإثارة
دوى صوت أيقظ الجميع بهلع ، و مالت الحافلة، و بدأت بعض النساء تبكين و الرجال يتكلمون جميعهم في آن ..
دقائق و عاد سائقنا البائس يزف البشرى : ثقب العجل، الرجاء مغادرة الحافلة.. أقرب مكان للتصليح يبعد مسافة …. لم أعد أستمع.. الشمس في الخارج كالسيف المحمى ..
بعد فترة انضمت إلينا الحافلتان الأخريان، و انتظرناااااااااا ما شاء الله أن ننتظر
قال الشيخ ممازحاً بعد أن اطمأن علينا : حلوا هذه الحافلة، و فرقوا ركابها بحيث لا يبقى لها أثر، و ابدؤوا الترقيم من "2" ،،
ثم إلتفت إلينا و قال : إستغفروا الله يا إخوتي ، إلزموا الإستغفار …
خطر في بالي مباشرة ما يروى في الأثر عن قوم موسى عليه السلام، الذين حبس عنهم المطر بسبب معصية أحدهم .. هل يحبس قومي بسببي يا رب ؟
و إن كان ذنبي كاف لحبس 140 شخص، فلا عجب إن كان ذنبي و ذنب مئة آخرين سبب ما تعاني منه بلادي
و لا عجب إن كان ذنبي و ذنب ألف آخرين سبب حصار و أسر و قتل و تشريد أبناء أمتي …
:
*** دعتنا الجهة المنظمة لحملة الحج إلى حفل صغير منذ يومين ( للقاء صحبة الحج من جديد، فسبحان الله رفيق الحج له معزة خاصة في القلب)
لدى دخولنا من الباب قال المتحدث : أرجوكم ، جماعة باص رقم واحد ليجلسوا في الخلف منفردين و يبدؤوا بوردهم
الزائدة الدودية !
رجل معنا في العقد الخامس من عمره، نقل إلى المستشفى للخضوع لعملية إزالة الزائدة الدودية قبل يومين فقط من الوقوف في عرفة !
يعني سبحان الله الذي له حكمة في كل شيء ، كل هذا العمر ، لم تلتهب الزائدة إلا في أسبوع الحج الذي قد لا يتكرر !
إسألوا أنفسكم ، لو قدر لكم موقف مشابه، كيف تكون ردة الفعل ؟
عن نفسي ، كان الشيطان ليجده المدخل الأنسب ليقنعني أنني غير مقبولة و يقنطني من رحمة الله ..
البعض الآخر قد يعترض على حكم ربه، ولو في الباطن ..
أما هذا الرجل كيف استقبل الأمر ؟
كان زوجي يزوره في غرفة الفندق مرتين في اليوم لكي يغير له على الجرح
فيعود متعجباً من أمره، يكرر على مسامعي ما نصحه به الرجل من وجوب الصبر على أذى الناس و اجتناب أي أمر قد يسلب منا هذه الحجة الغالية، و التفكر بالأجر العظيم …
سبحان الله .. من يفترض به أن يواسي من ، و من ينصح ، و من يطمّع في أجر الصبر ؟…
إذاً ، المحن و الابتلاءات تصيب الجميع و لا نملك دفعها، و لكننا نستطيع بحول الله ثم بحسن تلقينا و حسن الظن بالله، أن نظفر بما في المحنة من منحة ..
الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا
توقعت مصاعب و مشاق، و لكن آخر شيء توقعته أن ألقاه في الحج هو الشتائم العلنية.. يا ربي كيف يعني شتيمة عند بيت الله الحرام !!
ثم هناك من "ينصح" بأسلوب فظ و كريه يجعلك تنفر منه و تجد في نفسك إعراضاً عما يقول بغض النظر عن كنهه، و يفسد عليك سائر يومك –
يا ترى هل يكسب هذا الرجل أجر النصح (الذي كان في غير محله أصلاً)، أم وزر تعكير مزاج الحاج سائر اليوم ؟
ثم الأعجب من هذا كله ، أن أحدهم قدم لي – عند الكعبة تماماً – بطاقة عليها اسمه و رقم الهاتف – لا تعليق .
أما أكبر أذية حزت في نفسي و أحزنتني بحق، رغم اعتيادي عليها، إلا أنها في كل مرة تحبط ، هي ما تعرض له الشيخ من أذى ..
في مجالسه معنا، كان بعض الأخوة هداهم الله ، يعقبون على كلامه علناً بالحرف الواحد "هذا لا يصح يا شيخ" !
هم يعلمون أن بيننا حديثي عهد بالإسلام ، يرون دنياهم الجديدة من خلال هذا الشيخ الذي قد عينه مفتياً و شيخاً المجلس الإسلامي الأوروبي –
يا ترى كيف يكون أثر التشكيك بالشيخ في نفوس أولئك ؟
و هل تجوز مخاطبة إمام البلاد بهذا الشكل ؟
الأدهى من ذلك أنهم كانوا يسيرون بيننا، يثنون الناس عن اتباع فتاوى الشيخ و إرشاداته، و ينتقصون من قدره، مما أثار بلبلة واسعة في صفوفنا – هذا غير الجدالات الحادة التي أسأل الله ألا تكون قد أبطلت حجنا
فكان الشيخ يحاول لم الشمل بأن يجمعنا و يقول بغصة : " وصلني أنه يقال كذا و كذا ، فيا أبنائي : أنا لا و لن أبيع ديني بدنياكم جميعاً.."
ثم يعود فيشرح و يذكر المصادر و يجاريهم بالأخذ و الرد بحلمه و حسن خلقه ، جزاه الله عنا كل خير ..
سبحان الله ، حتى في هذه ، الحج صورة مصغرة عن حياتنا و واقع أمتنا …
معتقل الخيام !
بسبب الزحمة الشديدة و صعوبة المواصلات و غيره، ارتأت الجهة المنظمة لحملتنا أن تبقينا ثلاثة أيام في خيام منى، من دون العودة إلى الفندق .
كنت عندما أسمع كلمة ‘خيام منى’ أعتقد أن كلمة ‘خيمة’ إنما هي تعبيرية ، و لكن خيام الحجاج اليوم لا بد و أنها مهيأة و معدة لاستقبال الأعداد الكبيرة المنهكة..
لن أطيل الوصف و الشرح ، لأنني أصلاً لا أريد أن أشتكي .. و لكن الغاية إيصال الشعور
طوال مكوثي أثناء النهار في الخيمة، كان يحضرني معتقل شهير كان في جنوب لبنان أيام الإحتلال الصهيوني، اسمه معتقل الخيام(نسبة إلى اسم البلدة) ..
في المساء كنا نذهب للرجم، و لكن النهار الطويل الذي ليس من فرائض الحج و لا من سننه إمضاؤه في الخيام، كان أشبه بالمعتقل ..
بالكاد يوجد مكان للجلوس، و إن أردت الصلاة، فعلى من تجلسا عن يميني و يساري أن تقفا ريثما أنهي صلاتي
الخيمة مليئة بالأوساخ و بقايا الطعام الذي تكاد رائحته تخنقنا..
الحمامات(أعزكم الله) … فظيعة – لن أزيد على هذه الكلمة .. و مكان الوضوء، اللهم اجعله طاهراً مطهِراً…
النساء جلسن في حلقات فرفشة و ضحك تصل أصداؤه إلى ما شاء الله ..
و طبعا كالعادة ، هناك من تفتي و تحلل و تحرم و تضلل و تبطل ، ثم تنقلب فتاواها إلى جدال يتحول إلى نزاع شخصي
و تمضي كل من المتجادلات لتعرض على الأخريات المندمجات في مجلس الأنس روايتها مما حصل و تحصد ما شاء الله من الأصوات المؤيدة ..
لا مجال للخروج لأن الشمس محرقة، و تكثر حركة الرجال في الخارج. الجو في الداخل غير مناسب إطلاقاً للانسجام فيه..
تلوت الكثير من القرآن الكريم ، و لا مجال للصلاة .. الروائح تسبب لي تسمماً بطيئاً .. يا ربي ماذا أفعل و كيف أمضي الساعات العشر المقبلة على هذا النحو ؟؟..
أشعر أنني مقيدة ، مشلولة الحركة .. لا أعمل أي شيء ذو فائدة ، مجرد وقت ثمين يمضي .. يا الله، كيف يشعر الأسرى في السجون ؟..
رحت أستعرض في ذهني ما كنت شاهدته مسبقاً عن أحاديث و روايات المعتقلين المحررين ، و صرت أبكي بحرقة لأنني حينها لم أشعر معهم كما أشعر الآن !
عندها خطر لي أن الحج رحلة العمر حقاً .. ملخص للحياة .. تتنوع فيه العبادات و تمتحن فيه النوايا، و يتوسع فيه الإدراك و الحس..
يعني سبحان الله ، حتى هذا اليوم الذي كنت أحسبه عديم الجدوى ، هذب إحساسي و جعلني أكثر تفاعلا مع أبناء أمتي ..
قد يعتقد البعض أن كلامي مبالغ فيه ، و لكنني قد مررت بتجربة مشابهة من قبل، حيث فقدت طفلة بعد ثوان من ولادتها، و منذ ذلك اليوم صرت أفهم أم الشهيد بشكل أعمق ، و كلامها يدفعني بعزيمة أكبر
الدخول إلى بلاد الإسلام مسموح للأوروبيين فقط !
ولكي نذوق بعضاً من معاناة أمتنا اليومية أكثر، حان موعد الرحيل عن أطهر أرض، فتوجهنا ليلاً إلى المطار بنفوس حزينة و أجساد مرهقة قد نال المرض منها، لنجد مفاجأة غير سارة بانتظارنا :
الرحلة ألغيت و علينا الانتظار حوالي سبع ساعات
وقفنا في المطار، البعض جلس على الأرض، ولكن المكان ضيق ، فطلب منا رجال الأمن الإنظار في الخارج..
البرد قارص.. توجهنا إلى مسجد قريب من المطار، و رغم الإرهاق الشديد الذي كان قد حل بنا ، لم يغمض لأحدنا جفن من شدة البرد و الجوع.
حان وقت السفر من جديد، فاستقلينا طائرتنا الأولى إلى مطار إسطنبول حيث يفترض أن نستقل الطائرة الثانية.
وصلنا إلى تركيا، "عذراً يا جماعة ، فاتتكم الطائرة بسبب تأخركم ، عليكم الانتظار ليوم غد، ولكن لا تقلقوا هناك فندق جميل في انتظاركم"
لا حول و لا قوة إلا بالله .. البعض هب غاضباً يعترض و البعض شرعن في البكاء.. نسأل الله أن يتقبل حجنا جميعاً
توجه بعض الرجال لإجراء معاملات الفيزا للدخول إلى تركيا، فكانت المفاجأة أكبر من سابقتها :
يجب على حاملي جوازات السفر العربية و الباكستانية الحصول على الفيزا من السفارة ، وليس من المطار. بالتالي ممنوع دخول غير حاملي الجوازات الأوروبية إلى الأراضي التركية …
يا للعار .. و يا لذل المسلمين .. رحمة الله عليك يا محمد الفاتح.. سامحكم الله يا ولاة أمرنا …
كان الإرهاق و المرض قد بلغ بنا أشد مبلغ، فجلسنا على أرض المطار ، لا مكان يؤوينا..
منهكون جائعون غاضبون مقهورون.. الغادي يناظرنا و المقبل يشير إلينا.. شعرت بمعنى عزيز قوم ذل.. ذل بغير اختياره
نحن لنا بيوتا جميلة دافئة تنتظرنا في يوم غد ، و قد خرجنا إلى الحج بملئ إرادتنا، متوقعين أن نلاقي المصاعب
و لكن كيف حال من أبعدوا عن ديارهم قصراً و ظلماً و عدواناً ؟.. أبعدوا و اغتصبت بيوتهم و أراضيهم ، فلا أمل بعودة .. كيف يشعر أولئك ؟..
تذكرت إحدى السيدات الفلسطينيات المسنات، كنت قد شاهدتها في نشرة الأخبار أيام أحداث مخيم نهر البارد ، كانت تحكي بغصة، تغالب الدموع و هي تقول
" نحن قدرنا التشرد، أبعدنا من بلادنا إلى مخيمات للاجئين ، ثم ها نحن اليوم نبعد من مخيماتنا ".. و راحت تصف حالهم الصعب مع شح الموارد و قلة الحمامات..
يومها أثرت في نفسي كثيراً لكونها تعاني في هذا العمر المتقدم ، حيث ينبغي أن تكون محمولة على أكف الراحة .. ولكنني اليوم أفهم شعورها أكثر ..
اليوم أفهم معنى " من بات آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها."
أهل السعودية
لا أخفيكم أنني كنت قد سمعت عن صعوبة التعامل مع السعوديين، ففوجئت بحسن استقبالهم في مطار المدينة المنورة، ثم غيرهم ممن تعاملنا معهم في طريقنا.
صحيح أن إحدى المشرفات على أمن الحرم المكي دفعتني دفعة عند باب الحرم كادت توصلني إلى الحجر الأسود مباشرة ، و بعضهن كن فظات في التعامل – بسبب الضغط ربما ..
و لكن إحداهن أيضاً كانت في غاية اللطف تنصح و تشرح، حتى أنها جلست تجيب عن أسئلة بعض الأخوات حول أفضل مكان لتسوق كذا و شراء كذا ..
و حصل بسبب انشقاق صفوفنا للأسف، سوء تنظيم فوت على بعض الأخوات – و أنا من بينهن – زيارة الروضة الشريفة
فتوجهنا إلى هناك قبل انقضاء وقت الزيارة المحدد بدقيقة او اثنتين، و رجونا المسؤولة هناك أن تسمح لنا بالدخول، و لكنها طبعاً رفضت تقيداً بالنظام .
فقلت لها : أختي ، أعرف أن واجبك هو تطبيق القانون، و أحترم ذلك، و لكنني كما ترين الوحيدة التي تتكلم العربية هنا، الأخوات جميعهن مسلمات جديدات و متحمسات جداً ، و قد قطعن مسافة طويلة للتعرف على دينهم الجديد،
فإن كان هناك أي مجال لإدخالهن ، لا تحرميهن و تحرمي نفسك أجر تأليف قلوبهن ..
والله قلت كلامي لإرضائهن فقط لأنهن كن يطلبن مني إقناعها ، و لم أتوقع منها أي تجاوب ، و لكنها بعد تردد أفسحت لنا المجال – ببعض الشروط – على مسؤوليتها الخاصة ، فأكبرتها جداً و دعوت لها بصدق ..
النظام نحترمه و هو إنما فرض لخدمتنا ، و لكن المرونة مطلوبة، و قد وهبنا الله عقولاً لموازنة المصالح .
في مفارقة أخرى، بعض سائقي التاكسي كانوا يستغلوننا أسوأ استغلال ( وهذا يحصل في جميع بلداننا وقت السياحة للأسف)
حتى أننا طلبنا من أحدهم أن يوصلنا إلى شارع معين، فطلب 500 ريال. قبلنا بسبب التعب و تأخر الوقت، فراح يلف بنا الشوارع و يطول الطريق حتى وصلنا بعد نصف ساعة .
تبين لنا عند العودة أن الشارع الذي كنا فيه يقع خلف الحرم تماماً، لدرجة أننا عدنا سيراً على الأقدام !
في المقابل، استقلينا تاكسي آخر في مكان آخر، رفض صاحبه أن يتقاضى أي أجر معللاً أن خدمة حجاج بيت الله الحرام هي أكبر أجر !
مرة أخرى يتبين أنه في كل مكان يوجد الصالح و الطالح، و الخير و الشر، و الحلال و الحرام، و المهتدي و الضال، و حسن المعشر و سوء المعشر
فدعونا نترك التعميمات و الأحكام المطلقة جانباً لأنها غير دقيقة، كلنا خلق الله، و لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى .
خاتمة (و أخيراً )
لا أدّعي أن الحاج يعود ملاكاً معصوماً عن الخطأ، و لكنه يعود و قد اتسعت مداركه و رق قلبه
حاملاً ذكريات أروع لحظات العمر، يحن إليها عندما توهن عزيمته ، فتشعل قلبه بالحب و العزم على الثبات من جديد.
يكفي أن يعود المرء مغفوراً له ما تقدم ، فيكون أشد حرصاً على عدم تدنيس حياته الجديدة بأي لطخة سوداء
و هذه المرة عندما يعود الوسواس الخناس ليقول : و هل أنت مقتنعة حقاً أن بضعة أشواط من الطواف قد أرجعتك كيوم ولدتك أمك، هذا إن كانت مقبولة أصلاً و لم تبطليها بأخطائك
هذه المرة سوف أقول له بيقين : إخسأ يا لعين !
رحمة ربي وسعت كل شيء ، و لا زال العبد يعصي و مولاه يدعوه لكي يغفر له ..
تعلمت في الحج أنه متى أحاط المرء نفسه بجو إيماني ، و أرغم نفسه على الطاعات و اجتناب المنكرات .. و صبر
مهما كان حاله ، لا بد بإذن الله أن يتغير ..
:
أسأل الله أن يتقبل منا و منكم صالح الأعمال
و أن يجمعنا عند بيته الحرام ، أشرف و أطهر و أروع مكان
والحمد لله رب العالمين