هذا جزء من بيت لعمرو بن أبي ربيعة, يقول فيه:
ومعنى البيت كم شخص مالئ عينه من النظر إلى النساء إذا ذهبن لرمي الجمار.
وهو في هذا البيت يشير-على مذهبه الغزلي- إلى أن كثيرًا من الناس يسبيه التطلع إلى ما لا يمتلك, ويخص بذلك النظر إلى النساء الأجنبيات.
ولعل المعنى لا يقف عند حد النساء فحسب, بل يتعداه إلى أمور كثيرة, فكثير من الناس يزهد بما في يده, ويتطلع إلى ما في يده غير أيًا كان ذلك المُتَطَّلع إليه.
فكم من أناس يقطعون المسافات لطلب العلم عند عالم وعندهم في بلده من يفوقه، ولكن زامر الحي لا يطرب, وأزهد ما في العالم أهله.
وكم من الناس من يستشير البعيد عنه، ويزهد بوالده، أو قريبه أو أستاذه مع أن أولئك قد يفوقون المستشار بمراحل؛ فأولى لهذا ألا يزهد بمن عنده إلا إذا كان يستحيي من مشورة القريب.
وكم من الناس من يرغب عن الطعام الذي يُعَدُّ له في منزله، ويرغب في طعام أقلَّ منه جودة إذا كان خارج المنزل.
فهذه نبذة يسيرة، وأمثلة قليلة، والأمر أوسع من ذلك وأعم.
ولعل هذا التطلع إلى ما في أيدي الآخرين مما يورث الحسرات، والغموم؛ فأولى ثم أولى للعاقل أن يرضي بما عنده، وألا يمد عينيه إلى ما ليس له إليه سبيل.
ومن أعظم ما يعين على ذلك لزوم القناعة؛ فإذا لزم العبد القناعة أشرقت عليه شموس السعادة.
قال -تعالى-: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131].
قال أبي بن كعب –رضي الله عنه-: "من لم يتعز بعزة الله تَقَطَّعتْ نفسه، ومن يتبع بصره فيما في أيدي الناس؛ يَطُل حزنه، ومن ظن أن نعمة الله في مطمعه ومشربه وملبسه؛ فقد قلَّ علمه، وحضر عذابه".
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي–رحمه الله-في تفسير الآية السابقة:
"أي ولا تمد عينيك معجبًا، ولا تكرر النظر مستحسنًا إلى أحوال الدنيا والممتعين بها من المآكل والمشارب اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المزخرفة، والنساء المجملة؛ فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا، تبتهج بها نفوس المغترين، وتأخذ إعجابًا بأبصار المعرضين، ويتمتع بها، بقطع النظر عن الآخرة القوم الظالمون، ثم تذهب سريعًا، وتمضي جميعًا، وتقتل محبيها وعشاقها، فيندمون حيث لا تنفع الندامة، ويعلمون ما هم عليه يوم القيامة، وإنما جعلها الله فتنة واختبارًا؛ ليعلم من يقف عندها، ويغتر بها، ومن هو أحسن عملًا".
وما أحسن قول أبي فراس الحمداني:
ما كل ما فوق البسيطة كافيًا فإذا قنعتَ فكل شيء كافي
ومن يوصل إلى ذلك: أن ينظر الإنسان من هو أدنى في أمور الدنيا، وإلى من هو أعلى في أمور الدين وسائر الفضائل: فهذا هو المعيار الحقيقي، وتلك هي الموازنة المجدية؛ فهي تُبصِّر الإنسان بنعمة الله، وتقوده إلى شكره وإيثار محابِّه.
فإذا نظر الإنسان إلى من هو فوقه في التقوى، والعلم، وسائر الفضائل؛ حمله على ذلك على العمل والمسارعة إلى الخيرات.
وإذا نظر إلى من هم دونه في أمور الدنيا في الصحة والمال ونحو ذلك؛ قاده ذلك إلى مزيد الشكر.
وإلى هذا المعنى العظيم يشير قول النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق؛ فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فُضِّل عليه).
وزاد مسلم: (فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم).
قال ابن بطال-رحمه الله-في شرح هذا الحديث: "هذا الحديث جامع لمعاني الخير؛ لأن المرء لا يكون بحال تتعلق بالدين من عبادة ربه مجتهدًا فيها؛ إلا وجد من هو فوقه؛ فمتى طلبت نفسه اللحاق به استقصر حاله؛ فيكون أبدًا في زيادة تقربه من ربه، ولا يكون على حال خسيسة من الدنيا إلا وجد من أهلها من هو أخسُّ حالًا منه.
فإذا تفكر في ذلك؛ علم أن نعمة الله وصلت إليه دون كثير ممن فضَّل عليه بذلك من غير أمر أوجبه، فيلزم نفسه الشكر، فيعظم اغتباطه بذلك في معاده".
للشيخ: محمد بن إبراهيم الحمد-حفظه الله-