جمعتنا براءة الأطفال ، لعبنا وركضنا بين أزقة الحارة وشوارعها الفسيحة …
أجسادنا تنمو وحبنا ينمو …
كبرنا فجمعنا اللهو والطيش والعبث … خضنا في المعاصي والآثام …
غاب الناصح والرقيب فتاهت عقولنا في أودية الضياع والغفلة ، وهجم الفراغ والصحة علينا فسقطت أجسادنا في أوحال الفساد …
قلوبنا تعلقت بغير الله ، فهذا ممثل بارع ، وتلك فنانة فاتنة ، هذا لاعب مشهور ، وتلك نجمة إغراء عالمية …
يجمعنا فيلم ساقط ، ومباراة رياضية ، أو جولة في الأسواق الكبرى بحثاً عن الفارغات مثلنا ، نمضي ساعات طوال في الغيبة والنميمة والكذب على بعضنا البعض …
فقائل يقول : اتصلت على صديقتي وتواعدت معها …
وآخر يقول : لقد خرجت مع صديقتي …
وثالث يقول : لقد أوقعت بالضحية الألف …
سرنا في طريق مظلم لكن النور يتسلل إليه بين فترة وأخرى ، نسمع صوت الأذان ، نصلي أحياناً فنسمع آيات القرآن ، ويأتي رمضان فنمتنع ساعات عن المعاصي ، ربما نخرج إلى مكة ، فنؤدي العمرة بأجسادنا وألسنتنا التي تردد كالببغاء خلف مطوفٍ يدعو بنا أدعية الحج فيدخلها في العمرة ، وربما دعا علينا ونحن نؤمن ،لم نشعر خلالها بطعم الطاعة ، وربما نعود وقد عصينا الله في الحرم …
أحدنا وكان أقربهم مني مودة ، كان محبوباً من الجميع ، لطيف المعشر ، دائم التبسم ، خفيف الظل ، صاحب طرفة ، انجرف في طريق مظلم ، قاده إليه خاله الذي يكبره بسنواتً قليلة … بدأ بشرب الخمر ، فابتعدنا عنه وتخلينا عنه ، لم نعد نتحدث إليه ….
تعرف على المخدرات بأنواعها المختلفة ، خمر ثم حشيش ، تعاطى الهيروين بالشم ، ثم بدأ يستخدم الحقن ، تعرف على مروجي المخدرات ، روج لهم ، تغير حاله ، غابت بسمته ، وغارت وجنتيه ، أصبح هزيلاً ضعيفاً ، نبذه الجميع ، وكان قلبي يتقطع حسرة عليه …
غضب عليه أبوه ، عاش حياة التشرد ، يسير في الطريق تحسبه مريض قد هده المرض ، أو شيخ كبير تخلى عنه أبناؤه ، يأوي إلى الأماكن المظلمة ، والأزقة المنزوية ، نظراته شاردة ، حركاته غير متزنة….
أنهكه المخدر ، وقضى على نبض الحياة في عروقه ، يمكث يومه غائباً عن الوعي ، وعندما يفيق يبحث عن المخدر ليغيب مرة أخرى …
قسا قلبه على والديه ، وقسا على نفسه ، لم يدع موضع أصبع إلا وبه آثار المخدر ، حتى رقبته لم تسلم منها ، المروجون لم يعودوا يثقون فيه فكلما استلم بضاعة استخدمها ولم يوصلها ، امتنعوا عن منحه الجرعات التي تهدأ ثورة الألم في جسده ، لم يوجد لديه مال أضطر إلى أن يسرق ليوفر ه ، قبضت عليه الشرطة ، ألقي به في السجن ، نسيته ونسيه أهل الحارة …
==========
خرج من السجن ، ظل شهراً في المنزل لا أحد يدري عنه ، أخبرني أحد الأصدقاء ، ذهبت إليه ، فرح بي وفرح أكثر عندما رأى لحيتي وقد أطلقتها ، وثوبي قد قصرته ، أنشرح صدره لي ….
حدثني حديث التوبة ، اغرورقت عيناه بالدموع ، انبعثت من صدره كلمات ( خلاص .. تعبت ولن أعود للمخدرات ) ، شعرت بصدقها ، بل شعرت أن أنفاسه انطلقت معها فلمست أثرها على وجهي ، أخذت بيده إلى المسجد ، خرج معي ، شعرت بالسعادة تستولي على كياني …
حدثني عن تلك اللحظات السوداء القاتمة التي كان يصارع فيها الموت مع المخدر ، ماتت كل العروق في جسده ، لم يبق مكان يحقن فيه الإبرة إلا صفحة عنقه ، لقد كان الله يحفظه وهو يعصيه …
الحمدلله لقد عاد صديق الطفولة إلى الحياة من جديد ، هكذا قلت لنفسي …
==========
غبت عن صديقي عدة أيام حال بيني وبينه ظروف الحياة التي نعيشها ، وذات يوم رأيته يمشي مع رجلٍ مشبوه ، هالني منظره ، قد كسته المعاصي ظلمة ذهبت بنور الطاعة التي رأيتها منه قبل أيام …
أسرعت المشي ، التففت من ورائه ، وعدت أسير بخطواتٍ بطيئة في مواجهته ، وقفت وجهاً لوجه أمامه ، وقف هو أما مرافقه فقد أسرع الخطى إلى نهاية الشارع …
أمسكت بكتفيه ، هززته بقوة ، لماذا ؟ ألم تعاهدني على التوبة ؟ ألا تخاف أن تموت بسبب المخدرات فيختم لك بسوء عمل ، لماذا عدت ؟ لماذا عدت ؟ …
سكت لحظة ثم قال : لقد سئمت هذه الحياة ، لا مال ، لا عمل ، الفراغ قاتل ، أريد أن أعيش ، أنت لديك أسرة وعمل ومال ، أنا ضائع .. ضائع .. ضائع ، أتفهم ماذا أعني بهذه الكلمة ، لا يوجد طريق أمشي فيه إلا هذا …
أطرقت برأسي إلى الأرض ، ناداه رفقاء السوء ، رفعت رأسي ، ونظر هو إليهم ، ثم نظر إليّ في انكسار واستحياء ، استمروا ينادونه ويستعجلونه ، وهو ينظر إليهم مرة وينظر إلي مرة ، وقفنا في منتصف الطريق ، في أخر الشارع رفقاء السوء ينادونه ، وأنا أمسك بيده أدفعه نحو الإتجاه الآخر لم يستجب معي، أصوات رفقائه جعلتني أتضجر ، نظرت إليهم بغضب ، قلت وأنا أنظر إليه : إن لم يذهبوا فسأذهب إليهم وأضربهم ، نظر إليّ وقال : أنت صديقي وهم أصدقائي لا شأن لك بهم …
نظرت إليه بغضب ، صرخت به ، حذرته و هددته ، قلت له : إذا ذهبت معهم فلن ترى وجهي بعد اليوم ، ترك يدي ومضى نحوهم وقبل أن تسقط يدي ، همس لي : سأعود …
ذهب ولم يعد ، أكملت طريقي إلى البيت أحمل بين جنبي حزنا كبيراً ، وجرحا عميقا ، ودمعة ساخنة أحرقتني ، بثثت أحزاني لزوجتي التي راحت تصبرني ، وفجأة رن جرس الباب ، أسرعت نحوه ، فتحته فوجدته يقف أمامي ، قد عاد إلى عينيه شيء من بريق التوبة التي فرحت بها قبل أيام ، أدخلته المنزل ، دخل في نوبة بكاءٍ رهيبة ، نطق بكلمات ممزوجة بشهقات تتصاعد من صدره ، لقد تخلى عني الجميع ، لم يساعدني أحد ، أنا أموت في كل لحظة ، رفقاء السوء لم يتركوني ، أنت تركتني ، لقد عرضوا أن يساعدوني …
صرخت به : هم يريدون تدميرك ، هم يريدون أن يعيدوك إلى طريق المخدرات ….
رفع بصره نحوي وقال : والله إني أحبك ، ولا أرضى أن أغضبك ، تعبت ، تعبت من حياتي ، الهموم والغموم تحاصرني …
فقلت : الهم والضيق الذي تجده في صدرك بسبب المعاصي والبعد عن الله ، قرأت عليه قول الله عز وجل : (( ومن أعرض عن ذكري فإن له … وهنا توقفت ، سمعته يقرأ معي الآية أصابني الذهول فسكت فأكمل الآية ، عدت وأكملت الآية معه ، وبعدها قال : خلاص أنا أعلن التوبة بين يديك ، إن شاء الله لن أعود إليها ، لا تتخلى عني ، أحضرت له مصحفاً ، عاهدني على هذا المصحف ، وضع يده وعاهدني ، منحته المصحف هدية وكان أغلى هدية في حياتي ، منحته لصديق الطفولة والشباب ، ارتفع الآذان ، هيا إلى الصلاة ، قال : أريد أن أعود إلى البيت حتى أغير ملابسي …
سألته : كيف عدت إليها هذه المرة …
قال : شعرت بالضيق والوحدة فخرجت إلى الشارع ، جلست على الرصيف فمر بي أحدهم ورمى لي أبرتين وقال هذه تكفيك يومين …
قلت : كم مرة استخدمتها …
قال : لا تخاف دمي لا زال نقياً ، أقدر أتوقف عنها …
عاد وجه صاحبي يشرق من جديد ، حافظ على الصلاة ، ابتعد عن المروجين ، لكنهم لم ييأسوا ، حاولوا أن يصلوا إليه ، تعرضوا للطرد من أبيه ، ومنه في بعض الأحيان ، صار يرافقه خاله الآخر والذي كان مستقيماً أثناء خروجه ، عاد كما كان محبوباً من الجميع …
استمرت المحاولات من رفقاء السوء حتى يعود ، أجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم ، أغروه بالمال ، ذكروه بالماضي ، تعالى لتقضي على الفراغ الذي قتلك ، لحظات من السعادة تنسى فيها همومك ، وقع الكلمات في سمعه قضت على قلبه الذي استيقظ حديثاً من غفلته ، ولحظات الفراغ أطفأت نور الإيمان الذي أضاء صدره ، لم تسعفه لحظات الإيمان التي عاشها ليصمد أمام المغريات ، والجرعات الإيمانية التي تجرعها عجزت عن تقف أمام سيل الفتن الذي جاءه من كل مكان وفي كل زمان ، فكر حتى تعب من التفكير ….
وفي لحظة ضعف ، سار معهم ، وهناك بين قرناء السوء كانت النهاية الحزينة لحياة كئيبة لم تذق من السعادة إلا أياماً معدودة ، أمسك حقنة الهيروين بيده اليمنى وغرزها في يده اليسرى ، فجرى السم ليقضي على قلبه ، ألقى بجسده على الأرض ، لم يتنبهوا له ، ظنوه نائماً ، ولكن النوم طال ، حركوه قلبوه لم يفق ، لقد مات ، لقد مات من أول جرعة بعد الإقلاع ….
وصل الخبر إلى سمعي فكانت الفاجعة التي أجرت دمعي ، أسرعت نحو خاله ، سألته : ما الذي حدث ؟ حدثني عنه وهو يبكي ، لا أدري استسلم في لحظة ضعف لمحاولاتهم المستمرة وكانت النهاية الأليمة ، مات بحقنة مخدر زائدة ، لم يتحملها قلبه الضعيف …
شعرت بالندم فبكيت ورددت اللهم يامقلب القلوب ثبت قلبي على دينك …
ليته لم يعد ليته بقي بعيداً ، يارب اغفر له وارحمه يارب اغفر له وارحمه …
قصة من الواقع
موقع طريق التوبه