البيت مليء بالصراخ والنحيب.. الكـلـمات اليائسة هي الحوار الرئيسي بين الجارات في الداخل، ورائحة الموت التي تناقلتها النسوة في الحي إنها تدور حول ابن عم أو خال أو صديق أو قريب مات تحت القصف الـمـعـادي، أو من الخوف، أو.. أو.. وأنا مللت هذه الأحاديث، إنها تعاد مختلطة بتنهدات حارة، منتهية بنحيب مقيت، وعبارات مذعورة خائفة من الموت غداً، إن للموت مليون طـريـقــة فـي هذا الجو البائس، المشحون بالقتل والتدمير.
بلدي يا زهرة في القلب عبيرها،ويا بسمة على الشفاه مرسمها، ويا أملاً في الأحلام مرآته، ريا قُبلة على الوجنة نطبعها. لم أكن أعرف أني أحبك.. نعم أحبك. وفي الأزمات نعرف معنى الحنين إلى الأحباب ، ونكتـشـف مـــدى تعلقـنــا بهم.. نعم ففي الأزمات تتكشف للإنسان مشاعر خفية وغامضة ، وفيها يعرف ما استتر ، أو ما حاول ستره. إنني غريبة في وطني قَدِمْتُ إلى ترابه وأنا طفلة ، ووجدت في أحضانه أحلى وأرقّ الأيام والذكريات.
– شجون ، أنت هنا!
انتبهت على هذا الصوت الرخيم ، التفت إلى الخلف راسمة ابتسامة انتزعتُها انتزاعاً ، وقلت:
– منتهى.. أهلاً.. هل كنت تبحثين عني ؟
– بالطبع وهل لي صدر حنون كصدرك ؟
ضممتها إلى صدري الحنون – كما قالت – ضمة أحسست فيها بحرارة صادقة ومودة قديمة. قالت بعد أن أفلتت من بين ذراعي :
– فارس يا شجون فارس…
– فارس حبيبي الصغير.. ماذا به؟
– الحليب..!!
-الحليب؟!
قلت مستغربة ، وأنا أنظر إلى صدرها الذي كان يعلو ويهبط ، ثم أردفت : – وحليب الأم أين هو؟!
-ذهب منذ خبر استشهاد (وليد) ابن خالتي.
– والأسواق ألا يوجد فيها حليب؟
– الأسواق لا يوجد فيها طعام ! فكيف سيكون فيها حليب لابن عشرين يوماً؟ ! – والعمل؟
– "دبريني" يا شجون.. !!
وبدأت الدموع تتساقط من مقلتيها كأنها لآلئ تنحدر من صدفتين سوداوين.. ربَّتُّ على كتفها وقلت :
– الله معنا ، ولن يخذلنا إن شاء الله.
قبلتني ودعت لي بالنجاح والستر ، وأثنت عليّ ، ثم غــــادرت المكان إلى بيتها وطفلها ، وجلست أنا. »تعتمد عليّ !! من أين سأحصل على الحليب«؟ نظرت إلى معصمي ، وجدت فيه أساور ذهبية رفيعة ، لازمـــت يدي منذ صغري ، كنت أكبر ويكبّرها لي أهلي ، حتى لا تصير كالقيد يحز معصمي. أنا أحب هذه القطعة الذهبية ، لكنني أحب منتهى وفارس أكثر من الأساور.
دخلت إلى البيت ، أخذت أسأل الموجودات عن حليب لصغير لم يتجاوز العشرين يوماً.. جميعُهنَّ أجبْن بالنفي ، متأسفات لعدم وجود. لبسْت ملابس الخروج الشتوية ، وقاومت عصف الرياح المختلط بهدير الطائرات وقصفها.. خرجت إلى جارنا البقال ، سألته عيوني قبل لساني ، ولكنه أبدى أسفه وهو حزين. خرجت إلى الشــوارع حزينة مرتعشة ألتمس طعاماً لذلك الثغر البسام الصغير والجميع يتأسفون !.
عدت إلــى البيت أخيراً متجهمة الوجه ، قابلتني أمي باللوم. كيف أخرج في هذا الجو والطائرات تحوم حولنا و.. و!! وما كادت تكمل تأنيبها حتى أسكتت صوتها غارة جديدة. إن تشبثنا بالحياة يولد كلما شُنَّتْ غارة جديدة !.
وتكرر خروجي للبحث عن الحليب لفارس يوماً بعد يوم ، وفـي الـيــوم السابع أخبرني جارنا البقال أنه يستطيع تأمين بعض الحليب بعد يومين.. أشرق الأمل من جديد بعد أن كادت شمسه تذهب وتنيب ، وولدت البسمة على شفتي بعد أن قتلها اليأس.. عدت إلى البيت ، وسألت عن منتهى وابنها ، فأخبرتني أمي -كالعادة- بما لا يسر : الطفل جائع ، والعائلة فقيرة ولا تعرف من أين تؤمِّن معيشة الصغير.. منتهى تبكي..
يا إلهي اللآلئ تساقط.. وزوج منتهى لم يعد من الجبهة. وهي تسأل عني باستمرار.. بأي وجه أقابلها وهي التي اعتمدت بعد الله عليّ!!
بعد يومين عدت إلى البقال ، فوجدت دكانه مغلقاً ، نظرت إلى الساعة في معصمي إنها لا تزال السابعة صباحاً وهو بالتأكيد لم يعد بعدما ذهب لجلب الحليب.. بقـيـت في مكاني قرب الحانوت لا أتحرك رغم البرد الشديد الذي كان يحثني على الحركة لأمنع دمي من التجمد ، لكني كنت أغذي دمي بحرارة الأحلام ، حيث أتصور لآلئ منتهى قد جفت ، والبسمة تعلو وجهها الشاحب ، وطفلها يرضع الحليب الذي لم آل جهداً في إحضاره!.
في الساعة الواحدة ظهراً عاد البقال ، وعلى وجهه ابتسامة الأمل والفرح لأني -كما قال – كنت حقاً أماً لمنتهى رغم إنني أصغر منها ببضعة أشهر.. وقدم لي الحليب ، وطلب مني ثمناً لم أكن أتوقعه ، وحين استفسرت أخذ يشرح ويعيد ويزيد ، فلم أجد بُداً من إسكاته، وجـــدت النقود ضئيلة جداً أمام المبلغ الذي طلبه ، فقد جلب لي حليبا دسماً ، وبكميات كبيرة. فلم أتردد ساعتها في نزع الأساور ، وتقديمها لبائع الحليب قائلة:
– هذه تنفع؟
ضحك قليلاً ضحكة هزت جسمه ، ثم قال :
– تنفع يا بنتي.. "زين ".. لكن هذه تساوي الآن ضعف المبلغ. – وماذا نفعل؟. قل بسرعة.
– سأعطيك الباقي.
– أعطاني النقود حتى يخلص ضميره – كما قال -.. لم ألتفت إليه ، المهم أني حصلت على بغيتي.. عدت إلى البيت، ثم ذهبت إلى بيت منتهى، فلم أجد فيه أحداً، فاتجهت نحو بيتنا.
الفرح يصنع لي أجنحة بيضاً تحملني إلى الأرض التي فيها فارس ومنتهى صديقتي ورفيقة دربي. دخلت حديقة المنزل وإذا بي أفاجأ بعينين كصدفتين ودموع كأنها لآلئ ، تنحدر على خدين أسيلين.
– منتهى!!
صرخت بصوت عال ، والفرح باد على كل بقعة من جسدي.
– منتهى خذي ، هذا حليب لفارس.
نظرتُ إليها…ما هذا؟ حزن صامت وعينان فقدتا لمعانهما ، وصارتا باردتين كأنهما زجاج.
-منتهى.. الحليب !.
-قالت بكبرياء: لمن؟!
كاد قلبي يقف ، فقد توجست أمراً ، غير أني تمالكت نفسي وقلت متعجبة: – لمن ؟! طبعاً لـ ..
فَصَرَخَتْ : اسكتي يا شجون ، اسكتي أرجوك..
صحت : ويلك أين فارس؟
وكان الجواب بكاءً يقطع نياط القلوب.. ندّت من قلبي صرخة موجعة باكية: – لا.. الأطفال لا يمكن أن يمـوتـــوا بهذه السرعة من الجوع.. الجوع.. كم أكرهها هذه الكلمة… الجوع..
غرقت لحظة في بحار الحزن والألم ، وسادت لحظات صمت ، قطعتها أصوات القنابل والصواريخ وصفارات الإنذار وصـــراخ الانفجارات.. نظرت إلى منتهى وجدتها تدخل البيت.. تركتني وحيدة كما تركها فارس وحيدة.. نظرت إلى أعلى.. إلى السماء وهتفت :
– يا رب… يا أمان الخائفين!
بقلم: عبير عبد الله الطنطاوي