التصنيفات
الملتقى الحواري

ومسحت الرقم.. – نقاش حر

بسم الله الرحمن الرحيم
((اللهم اغفر له وارحمه..وعافه واعف عنه..وأكرم نزله..ووسع مدخله..واغسله بالماء والثلج والبر..ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس..

اللهم أبدله دارا خيرا من داره..

وأهلا خيرا من أهله..

وزوجا خيرا من زوجه..)

بالضبط عند هذه النقطة من الدعاء كثيرا ما أسرح بذهني بعيدا عن صف المصلين
الذي أقف فيه لأتذكر ذلك الشاب..

لم أره منذ مدة..ربما أكثر من عشر سنوات..
كان آخر لقاء لنا على مقاعد الدراسة..وبعدها فرقتنا مشاغل الحياة وسنين دراسة أخرى طويلة..
ثم انقطعت عني أخباره حيث أنه خرج ليواصل دراسته الجامعية خارج البلاد.
كان صاحب عقل متقد ..وذهن صاف ..فأتم دراسته بتفوق ثم عاد ليعمل في إحدى المؤسسات المعروفة..

سمعت بعودة صاحبنا ..فذهبت إلى مكان عمله لأراه..علنا نجدد عهودا ماضية..
ولأعرف أخباره..
وعندما التقت الوجوه ابتسم كل منا لصاحبه ابتسامة عريضة..وكان عناق وضحك..
ثم قلت له: لقد نحفت يا عبدالله..
فقال لي مازحا:وماذا كنت قبل حتى أنحف أكثر!..
ثم ضحكنا..
هو عبدالله الذي أعرفه..بروحه المرحة وابتسامته العريضة..ونظارته السميكة التي تطل خلالها عيناه الذكيتان..
قلت له مداعبا: ألم تتزوج بعد أيها العجوز؟!!..
فرد علي: بل أبشرك أني قد عقدت على بنت الحلال..وأنا على وشك أن أنتهي من تأثيث الشقة..
ولم يبق لي سوى تركيب المكيفات وبعض الكماليات الأخرى..لزوم الفرح كما تعرف..

ففرحت وباركت له وأنا أقول:
لا تنس أن تدعونا لوليمة عرسك إذن..
ثم إنني أخذت منه موعدا على أن يزورني في بيتي حتى نجلس سويا ويعرف كل منا أخبار صاحبه..
وأعطاني رقم هاتفه.

حصلت ظروف طارئة منعتني من رؤية عبدالله في الموعد المضروب..
فكلمته بالهاتف لنؤجل الموعد إلى وقت آخر..فرحب بذلك..وكانت ظروف عمله هو الآخر غير مواتية..
فكانت تستلزم أن يسافر بسيارته من منطقة إلى منطقة بين الفينة والأخرى..
وفي أحد الأيام عنت له سفرة إلى إحدى المناطق القريبة..
فلملم حاجياته وانطلق بسيارته..

كنا قد انتهينا من صلاة المغرب..فأسندت ظهري إلى المتكأ وأنا أردد الأذكار..
وبقيت على تلك الحال برهة من الزمن..ثم أحسست بهاتفي المحمول يهتز داخل جيب الثوب..
أخرجته ونظرت إلى رقم المتصل فإذا هو أحد الأصحاب ممن لم أرهم منذ فترة..
رفعت الهاتف إلى أذني مسلما على صاحبي..فسلم ورحب بي على عجل على غير العادة..ثم قال بنبرة جادة:
تعرف الأخ عبدالله؟!!
انقبض قلبي وأنا أقول ..
خيرا إن شاء الله..ماذا أصابه؟!!..
الأخ توفي اليوم..
…..كيف؟!!!!!!
أقول توفي اليوم في حادث..
حادث سيارة وسيصلى عليه اليوم بعد العشاء في الجامع..

أغلقت الهاتف وانعقد لساني من فرط المفاجأة..لم أكن مصدقا ولم أستطع أن أصدق..
ولذا فقد عزمت أن أخرج فورا وأتأكد من الأمر بنفسي.

زحام شديد عند الجامع..وأناس من جنسيات مختلفة..
وكثير من زملاء عبدالله في العمل موجودون هنا..
وقف أبو عبدالله يستقبل جموع المعزين وهو يحاول أن يخفي اضطرابا وألما دفينا..
جاءت (ما يقول الناس) أنها جثة عبدالله محمولة على الأكتاف..
صلينا على عبدالله..ولكنني لم أزل غير متيقن تماما بأنه قد رحل..
ربما كان في غيبوبة وظنوه ميتا..
هذا يحصل.. أليس كذلك؟!!

انطلقت أسابق الريح بسيارتي إلى المقبرة..
أريد أن أرى عبدالله قبل أن يدفن..
هل مات فعلا؟!!..
وضعوه على الأرض ملفوفا بكفنه..اقتربت منه وأخذت أتفحصه وأتسآل..
هل من بداخل هذا الكيس هو عبدالله حقا!!
وأخذ دماغي يثور بالأسئلة..
ولكن يا عبدالله لقد تخرجت من الجامعة لتوك..ولا يزال أمامك الكثير من الأعمال لتقوم بها!..
نجاحات كثيرة تنتظر منك أن تحققها..
وفتاة أحلامك هناك تنتظرك..
والشقة التي أكملت تأثيثها..
والمكيفات..
و..و..موعدنا!
هل تسمعني يا عبدالله…

هذه هي المرة اللأولى التي أجيء فيها المقبرة ليلا..
مصابيح متناثر هنا وهناك..بعضها يرسل شعاعا قويا متوهجا..وبعضها يرسل شعاعا كئيبا باهتا..
بالنسبة للميت ليس هناك فرق بين الليل والنهار..
فالحفرة مظلمة في كل وقت إلا من نور عليه قبره..
هاهو عبدالله تحتمله الأيادي ثم ينزل في قبره..
بدأول يهيلون عليه التراب..
الأيادي مغبرة..والأعناق مشرئبة..والعيون دامعة..
وأخذت أرمقه..
هل سيتحرك..هل سيتحرر من كفنه وينفض الغبار عنه وينتهر من حوله: كفو عن هذا!!
لم يحصل شيء من ذلك..
واستمر التراب يعلو ويتراكم حتى استوت معالم القبر مع ما حولها من الأرض..
إذن..

فقد مات عبدالله..

هأنذا أمسح رقم هاتف صاحبي من مفكرة الأرقام..فقد صار لغيره..
ولكنني لم أجرؤ على مسح اسمه..وأبقيته لأسترجع أشلاء من ذكراه..
لقد كانت المرة الوحيدة التي التقيت فيها عبدالله بعد عودته من الخارج هي تلك المرة عندما زرته في مقر عمله..
ولم تدم تلك الزيارة سوى بضع دقائق..
ولكنه علمني شيئا مهما بموته..
وهو أن كون الإنسان مشغولا جدا..
وعنده الكثير من الالتزامات والمواعيد..ووراءه كثير من الناس الذين ينتظرون لقاءه أو ينتظر هو لقاءهم..
لا فرق..
كل ذلك لن يجعل هادم اللذات يتردد ثانية واحدة في أن يضرب ضربته
دونما موعد ولا استئذان..


اللهم أبدله دارا خيرا من داره..


وأهلا خيرا من أهله..


وزوجا خيرا من زوجه….

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هناسبحان الله و بحمده

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.