التصنيفات
روضة السعداء


غفلة الأيام وصحوة الأوهام

أنا ونفسي

بعد أن لم تعد الشمس تستطيع أن تبقى معلّقة بين السماء والأرض , وبعد أن همدت نارها وخفّ لهيبها مع تغيّر لون أشعتها , أخذت بالهبوط مخاطرة على نفسها أن تقع في المحيط , تريد أن تهبط لتبحث لها عن مبيت قبل حلول الظلام , بعد يوم شاق من مقارعة هموم الدنيا ومِحَنِها , بعد يوم طويل بين كرٍّ وفرّ مع عباد الله, ومع هبوط الشمس لمبيتها , نفضتُ عني ما علق بي من غبار النهار , من أخذ وردّ وقبول وإصرار, شق القمر الغيوم وفتق أوصالها سالكا طريقه للأعالي ليستطيع أن يستكشف البشر وأمورهم وأن يستجلي خفاياهم وأسرارهم , علّه أراد أن ينير بضوئه الخافت طريق الأخيار أو قل خفّت نوره ليعتم الطريق على الأشرار , رنوّت متأملا محيطه ,الحدّ بين الظلام والنور , جلست مع نفسي شاردا حائرا متأملا , لست أدري أي أحساس اعتراني دون قصد منّي أو معرفة فوجدت نفسي استعرض حياتي وكأنها حافظه صور تقلّب أوراقها نسائم الليل النديّة فخلال لحظات رأيت نفسي طفلا ألهو ويافعا ألعب وشابا أكافح في هذه الحياة وأتقلب كما الرضيع بين أشواق واندفاعات وتقلّبات بالأحاسيس , مرتفعات وانخفاضات ليونة ومصاعب , ورجلا علت المسؤوليات والهموم , الالتزامات والارتباطات حتى فوق رأسه.
إن أكثر ما استوقفني تلك الفترة التي شبّت مشاعري على الطوق وكانت مشاعر الحب تفيض من قلبي فيضانا فاستهوتني نفسي وشعرت بالأشواق تشدني وبمشاعري تفيض من جديد , رويدك رويدك سمعت صوتا مؤنبا يصدر من أعماقي , لا تتعجب ولا تستغرب أني نفسك التي بين جنبيك , نعم أنا نفسك التي تكلمك , أين أنت من تلك الأيام وأين أنت اليوم من الحقيقة ؟! أنت تائه بين الحقيقة والرغبة , بين الواقع والأماني , بين الوعي والتأمل بين الخيال والتمني .
-ماذا تقولين أيتها النفس ؟ أفقدت صوابك ؟
– كلا يا عزيزي , بل إني أقول الحقيقة .
-عن أية حقيقة تتكلمين , وهل تعلمين الحقيقة أكثر مني ؟
أم أنك تتخبطين بين أهوائك ؟!
-وهل تستطيع أنت أن تخفي الحقيقة عنّي , هيهات …
ألا تعرف إن كل فكرة تطرأ على ذهنك تمر من بين يديّ , ألا تعرف إن كل عمل تقوم به مخططه عندي , ألا تعرف بأني التي توحي لك بالأفكار وتسهّل لك الأعمال ؟
-أنت تهذين فأني لست منقادا إليك .
-ولكني أعرف كل شيء عنك , ألم تتمنى يوما أن تكون مثل فلان من الناس أنعم الله تعالى عليه وفضل , وشعرت بوخز في داخلك ؟! هل تعلم ما هذه الوخز , إنه الحسد أيها المتحذلق .
-أخرسي , فإني أقنع من أن أحسد أحدا .
-أصمت أيها المدّعي الجاهل ألم يصلك الخبر بعد بأن في كل قلب نكتة سوداء ألا تعرف إن في كل جسد حسد فاللئيم يظهره والكريم يبطنه .
-إن وافقتك ,فأني أبطنه .
-لست أفتح لك باب مهرب فلا تتحذلق , ألم تشتهي يوما ما ليس لك وبأي اتجاه , علك تفهم قصدي .
-إن كان , فقد بقي أفكارا مستوره .
-أجل أعلم , ولكن ليس عن الجميع , ألم تفكر يوما أن تمد يدك للحرام , ألم تقل يوما كلاما حرام , ألم تعمل يوما عملا حرام وفكّرت بأفكار حرام , تأكد يا حاملي بأني أعرف كل شيء , صغيره وكبيره وإن كنت لا تعلم فتلك مشكلتك التي تشهد على جهلك .
نظرت للقمر الذي كان قد وصل قبة السماء يمشي ألهوينا لا يشغل باله شيء في الدنيا , نظرت متسائلا مخاطبه , كيف تعلم هذه النفس كل هذه الأشياء , كيف تعلم , من يحيطها علما بها , قد أكون جاهلا فعلا , يا ويلتي , كيف نسيت , كيف غاب عن فكري , كيف أهملت معرفتي في زاوية مظلمة من مخزن ذكرياتي فعلاها الصدأ والغبار فبالكاد رأيتها وبجهد نقيتها . أيتها اللعينة إنك لا تعرفين كل هذا إلا لأنك أنت التي توسوس لي بها , لقد عرفتك أيتها النفس الخبيثة الأمّارة بالسؤ , الويل لك مني الويل .
أهملْتَََََني وأهملت روحي فخلا المكان لنفسي تسرح وتمرح فلا حسيب ولا رقيب , فزيّنت لي المال الحرام وجعلته سهل المنال وأظهرت الحلال بعيدا صعب المنال , تعربد وتظلم وتوسوس في الظلام وتسهّل نيل الحرام وتجمّل سؤ الكلام , لقد شوّهت الكثير من المعاني الطاهرة والقيّم عند البشر ونشرت سوء الظنّ وسوء النوايا بينهم , لقد تسببت بتغيير وقلب الكثير من المفاهيم , وجعلت زمجرة الناس على بعضهم ترانيم , قلبت موازين وتفشت الفتن بين الناس , زيّنت للشباب الغرور وغلّفت الحرام بالسرور وأنْسَت الناس القبور.
أما زلت نائما أيها الضمير , لم أكن أعرف كثر حبك للنوم فعذرا !
أنْسَت الناس الفضائل , فإن عمل الخير كاد أن يصبح عملة نادرة , قلما تجد وترى له بادرة , زرعت في قلوب الناس البغضاء والحقد فنجحت , وطغت على قلوب العباد فرانت ,واخطر ما في الأمر بأنك ترى الكثير من الناس من يحبون هذه النفس ويعشقون تخطيطاتها , وينظرون لحبائلها كطريق الخلاص من مطبّاتٍ وهموم الدنيا ومصاعبها , يرون بأنها الضوء في ظلام الجهل القاتل , فما من جهل أعظم من جهل الإنسان لنفسه . إن الطامة الكبرى توكيل النفس بقيادة وتدبير أمور الناس , أين أوصلتنا هذه القيادة ماذا فعل بنا هذا الانصياع للنفس , من تراه يحب الناس بكونهم بشرا , حب متجرد من المصالح , من تراه اليوم يحب الخير للناس , من تراه اليوم يؤثر على نفسه وأن كان به خصاصة ؟!

فأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان دائم الدعاء: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين".

سبات عميق تغطّ به أيها الضمير , أُخفض صوتي لئلا أوقظك!
هل عرفت نفسك أيها الإنسان , هل تستطيع أن تهذبها , هل لديك المقدرة على تأديبها وتطويعها لفعل الخير , إن معرفة النفس الطريق الوحيد للفوز في الدارين فإن من عرف نفسه عرف ربه . أن معرفة النفس لهي الدليل القاطع على معرفة الغير لأن معرفة النفس هي أعلى وأسمى وأوسع المعارف فتكون شاملة للغير .
أتساءل , أليس من رادع أما من وازع لهذه النفوس الأمّارة بالسوء , أما من قيود عليها , أما من قناعة تُلزم النفس عفّتها .
أما آن لك أن تستيقظ أيها الضمير ؟!

عمر رزوق

أبوسنان – عكا – الجليل

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هناسبحان الله و بحمده

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.