التصنيفات
روضة السعداء

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين


سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

إن لكتاب الله، الذي أنزله سبحانه ليكون نورًا وهدًى وشفاءً ورحمةً للمؤمنين، أسرار وعجائب لا تنتهي ولا يعلمها إلا الله ، كلما ازدادت البحوث في هذا العصر كلما ازدادت البراهين على المعجزة القرآنية.


إن البارئ سبحانه وتعالى رتب جميع كلمات كتابه بنظام محكَم، وكلما تعمّقنا وتدبّرنا في كلمات القرآن رأينا إعجازاً أكبر وأكبر…

والنظام اللغوي والترتيب الزمني في قصص القرآن الكريم على علاقة وطيدة بتكرار القصة فيه، في عدة مواضع.


ولذا وجب علينا أن نجيب على السؤال الذي كثيرا ما نتساءلُه :


لماذا تتكرر القصة ذاتها في مواضع متعددة من كتاب الله عز وجل؟ وما سر هذا التكرار ؟


إن الحكمة من تكرار القصة القرآنية في مواضع متعددة من كتاب الله تعالى هي زيادة العبرة والموعظة ولتذكير المؤمن دائما بعاقبة المكذبين من الأمم السابقة.


ومن حكمة الله تعالى في ذكر القصة ذاتها في عدة سور هو استكمال جوانب القصة فتذكر القصة مختصرة جدا أحيانا وأحيانا مطولة، وأحيانا تُذكرُ أحداث جديدة في كل مرة، إذن هنا القصة لا تتكرر إنما تتكامل.


وتكرار القصة في القرآن الكريم يُظهِرُ المعجزة اللغوية والبيانية فيه.


فبالرغم من تكرار القصة عبر سور القرآن الذي استمر نزوله فترة 23 سنة لا نجد أبدا أي تناقض أو نقص أو خلاف.


لا يوجد في العالم كتاب مثل القرآن يسرد القصة ويكررها مراراً، وبالرغم من ذلك لا تملُّ منه الألسُن ولا يشبع منه العلماء ولا تنقضي عجائبه، وهذا أمر طبيعي فالقرآن كتاب الله رب البشر، فهل يعقل أن يتفوق البشر على خالقهم؟

نأتي الآن إلى الحديث عن النظام اللغوي في القرآن الحكيم:


هو نظام محكم وأي كلمة من كلمات القرآن تُستخدمُ استخداما دقيقا جدا في موضعها من أول القرآن حتى آخره.


والانسجام البياني المبهر يتجلى في كل قصص القرآن الكريم ولكننا سنأخذ مثالين فقط على ذلك:


المثال الأول: قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل فهذه القصة تكررت كثيرا في القرآن.


فعندما يتحدث القرآن عن نجاة بني إسرائيل من فرعون نجد كلمة (أنجيناكم) تكررت في القرآن كله 3 مرات،


في هذه الآيات:


﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة: الآية 50].


﴿وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ [الأعراف: الآية 141].


3.﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [طه: الآية 80].


ومع أن السور الثلاث التي ذكرت فيها هذه الكلمة متباعدة منها ما نزل بمكة ومنها ما نزل بالمدينة إلا أنها جاءت منسجمة من حيث المعنى اللغوي يفسر بعضها الاخر ويكمل بعضها الآخر فقال سبحانه وتعالى (فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ)بسبب أنهم (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ)ثم بعد ذلك (وَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى).


وبعد أن نجى الله بني إسرائيل وأنزل عليهم المن والسلوى، قابلوا هذه النعم بالعصيان:


1 ـ ﴿قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [البقرة: جزء من آية 93].


2 ـ ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ [النساء: جزء من آية 46].


إن عبارة (سمعنا وعصينا) وردت في القرآن كله فقط في هذين الموضعين ولم ترد على لسان أي من البشر إلا بني إسرائيل، وكأن الله تعالى يريد أن يقول لنا أن المعصية لا تليق إلا بهؤلاء.


والمبهر في البيان اللفظي في هاتين الآيتين أن الآية الأولى جاءت بصيغة الماضي (قالوا) فهذا يدل على ماضيهم وتاريخهم في المعصية ولكي لا يظن أحد أن هذا الماضي انتهى جاءت الآية الثانية بصيغة الاستمرار (ويقولون) للدلالة على حاضرهم ومستقبلهم في معصية أوامر الله تعالى فهم في حالة عصيان مستمر.


ولم يكتفوا بعصيانهم بل أغلقوا قلوبهم وغلفوها بغلاف من جحود وكفر ويأتي البيان القرآني ليصف قلوب هؤلاء على لسانهم:


1 ـ﴿وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ [البقرة: آية 88].


2 ـ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء: آية 155].


وهنا أيضا تُستخدمُ كلمات القرآن بدقة متناهية فكلمة (قلوبنا غلف) لم ترد إلا في هذين الموضعين وهي لا تليق إلا ببني إسرائيل.


والنظام اللغوي في هاتين الآيتين يتجلى أيضا على النحو التالي:


فالآية الأولى جاءت على صيغة الماضي (وَقَالُواْ) لتخبرنا عن ماضي هؤلاء وحقيقة قلوبهم المظلمة، ثم جاءت الآية الثانية بصيغة الاستمرار (وَقَوْلِهِمْ) لتؤكد حاضرهم ومستقبلهم أيضاً، وهذا التدرج الزمني كثير في القرآن، فتسلسل الآيات والسور يراعي هذه الناحية لذلك يمكن القول بأن القرآن يحوي من الإعجازات ما لا يتصوره عقل: لغوياً وتاريخياً وعلمياً وفلسفياً وتشريعياً ورقمياً، ألا نظن أننا أمام منظومة إعجازية متكاملة في هذا القرآن؟


ولكي نزداد يقيناً بعظمة هذا النظام المُحْكَم ندقق النظر في:


مثال ثان: وهو قصة صالح عليه السلام مع قومه ثمود وتكرارها في كتاب الله، فقد ورد تحذير على لسان صالح عليه السلام فقال لقومه في ثلاث مواضع من القرآن عن عذاب الله:


1 ـ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَـذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأعراف: الآية 73].


2 ـ﴿وَيَا قَوْمِ هَـذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ [هود: الآية 64].


3 ـ﴿وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء: الآية 156].


كلمة (فَيَأْخُذَكُمْ) لم ترد في القرآن كله إلا في هذه الآيات الثلاث ودائما على لسان سيدنا صالح عليه السلام، وكأن هذه الكلمة خاصة بقوم ثمود وأنه سيأخذهم عذاب أليم – قريب – عظيم.


وانظر معي إلى التدرج اللغوي في هذه الآيات الثلاث عن صفة عذاب الله فحذرهم أولاً من (عذاب أليم) ولكنهم لم يستجيبوا لهذا التحذير فأكد لهم بعدها بقوله: (عذاب قريب) أي أن عذاب الله قد اقترب، ولكنهم لم يبالوا بهذا النداء فجاءهم التحذير الأخير ليصف أن اليوم الذي ينتظرهم قد اقترب كثيراً فقال لهم (عذاب يوم عظيم) فأكد صدق هذا الوعد بكلمة (يوم) وأنه سيكون يوماً عظيماً.


وعلى الرغم من معجزة صالح عليه السلام، وتحذيره لقومه فإنهم كانوا قوماً مفسدين، لم يستجيبوا لنداء الله تعالى ولا لتحذير رسوله فعقروا هذه الناقة. ويأتي البيان الإلهي ليصف هذا التعدي على حدود الله وعاقبة ذلك. لنتأمل الآيات الثلاث الآتية:


1 ـ﴿فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود: الآية 65].


2 ـ﴿فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ [الشعراء: الآية 157].


3 ـ﴿فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا [الشمس: الآية 14].


إن كلمة (عقروها) لم ترد في القرآن كله إلا في هذه الآيات الثلاث، وكما نرى الحديث دائماً عن قصة ثمود. في هذه الآيات معجزة يمكن تسميتها بمعجزة تسلسل الحدث في القرآن، فالآية الأولى تحدثت عن وعد صالح عليه السلام لهم بالعذاب جزاء فعلتهم، ثم تأتي الآية الثانية لتعبر عن ندمهم لأنهم أدركوا أن العذاب واقع لا محالة، أما الآية الثالثة فجاءت بالعذاب مباشرة (فدمدم عليهم ربّهم). إذن جاء التدرج الزمني للأحداث عبر الآيات الثلاث من الوعد بالعذاب إلى اقتراب هذا العذاب حيث لا ينفع الندم، وأخيراً وقوع هذا العذاب.


ومع أن هذه الآيات متباعدة من حيث النزول ومن حيث الترتيب في القرآن فقد جاءت متناسقة ومتدرجة وتعبر تعبيراً دقيقاً عن حقيقة هذه القصة. فأين هم كُتاّب القصة من نظام كهذا؟


إن النظام اللغوي في قصص القرآن الكريم لا ينفصل عن ترتيب زمن الأحداث فيه، فلنتمعن في الآيات التاليات:


قال الله تعالى في حق يعقوب عليه السلام: ﴿وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف: الآية /68].


أما العبد الصالح في قصته مع موسى عليه السلام فقد قال الله فيه ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً [الكهف: الآية 65].


وفي قصة داود وسليمان عليهما السلام: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ [الأنبياء: الآية 80].


ولكن عندما يكون الحديث عن خاتم النبيين يأتي البيان الإلهي ليمدح هذا النبي الأمي، ويؤكد بأن كل كلمة نطق بها إنما هي وحي من عند الله تعالى. يقول تعالى عن نبيه وحبيبه المصطفى عليه الصلاة والسلام: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ [يس: 36/69].


والعجيب حقاً أن كلمة (عَلَّمْنَاهُ) وردت مع أنبياء الله وعباده المؤمنين دائماً بصيغة الإثبات إلا مع الرسول الأعظم، فقد جاءت بصيغة النفي (وما عَلَّمْنَاهُ) ليؤكد لنا أن القرآن هو كتاب الله تعالى وليس للرسول، ولا حرفاً فيه بل كلٌّ من عند الله. وهذه الحقيقة اللغوية ثابتة لأن كلمة (عَلَّمْنَاهُ) تكررت في القرآن كله 4 مرات، وجاء ترتيبها موافقاً ومطابقاً للتسلسل التاريخي لمجيء الأنبياء الأربع، يوسف فموسى فسليمان فمحمد عليهم الصلاة والسلام أجمعين.


ونتساءل: هل جاء الترتيب الزمني والترتيب القرآني متطابقاً بالمصادفة؟ وهل يمكن لمصادفة أن تتكرر؟

إننا في هذه الحالة أمام برنامج متكامل لاستخدام الكلمات في القرآن، وهذا إعجاز جديد في كتاب الله تعالى وهو إعجاز استخدام الكلمات في القرآن الكريم.


ونتساءل: هل يستطيع أدباء البشر وشعراؤهم وعلماؤهم أن يؤلفوا كتاباً ضخماً مثل القرآن ويحددوا مسبقاً استخدام كل كلمة من كلماته؟


الحمد لله رب العلمين

من كتاب "الإعجاز القصصي في القرآن الكريم"


للدكتور: عبد الدائم الكحيل

من بين عدة مواضيع في الكتاب


استخرجْتُ الإعجاز اللفظي البياني فيه


لخصتُ ما استخرجتُهُ، نسقتُهُ وحررتُهُ بقلمي

أرجو أن أكون قد وُفقتُ

لقراءة ردود و اجابات الأعضاء على هذا الموضوع اضغط هناسبحان الله و بحمده

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.