من منا تذكر يوما ما الآخرة..
ولم تحدثه نفسه بترك المعاصي والموبقات..
وبفعل الخير والأعمال الصالحات..
ولم تستيقظ نفسه وتخشع وتذل وتبادر إلى الحسنى..
وهل هناك أمر هو أشد دفعا للنفوس إلى فعل الخير من أمر الآخرة ؟؟..
وهل هناك أمر أشد دفعا لمحاسبة النفس وانتشالها من الغفلة..
من الوقوف بين يدي من له الأولى والآخرة ؟؟
والتفكر في اليوم الآخر على نوعان..
فهو سعادة وطمأنينة وسكينة لطالبيه..
وعلى ما يحزن طالب الآخرة ؟..
على أمر حقير يفنى عما قريب ؟..
كلا.. فالآخرة خير وأبقى..
فتفكره في اليوم الآخر يهون عليه مصائبه..
لعلمه علم اليقين أن مصائبه إنما هي تخفيف لذنوبه.. تثقيل لميزان حسناته..
وإن كان مظلوما.. فتفكره في اليوم الآخر سكينة وسعادة له..
فيومئذ سيأخذ حقه لا محالة.. وأي حق !!
يوم يقتص العادل في حكمه جل في علاه للشاة الجلحاء من الشاة القرناء..
والوزن بالقسط فلا ظلم ولا *** يأخذ عبد بسوى ما عملا
هكذا.. لا تذهب نفس طالب الآخرة على الدنياحسرات..
وهي تتطلع لما أعده الله للصابرين من نعيم يُنسى معه كل ضر..
ويُنسى معه كل بلاء وسوء وعناء..
وتتطلع لما أعده للظالمين من بؤس يُنسى معه كل هناء..
وأما من كانت أنفسهم غارقة في ملذات الدنيا والأهواء..
هؤلاء.. هم من أنذرهم الله سبحانه وتوعدهم بيوم الحسرة..
(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) مريم/39
فإذا قُضى الأمر.. يوم يُجمعُ الأولون والآخرون في موقفٍ واحد..
فمن آمنَ و اتبع الهدى سعِدَ سعادةً لا يشقى بعدها أبدا..
ومن تمردَ وعصى شقي شقاءً لا يسعدُ بعده أبدا.. يومها يتحسر هؤلاءَ ويندمونَ ندامةً تتقطعُ منها القلوبُ..
وتتصدعُ منها الأفئدةُ أسفا..
وأيُ حسرة أعظمُ من فواتِ رضا الله وجنته..
واستحقاقِ سخطهِ وناره.. على وجهٍ لا يمكنُ معه الرجوع ليُستأنف العمل..
ولا سبيلَ له إلى تغييرِ حالهِ ولا أمل..
يوم..
يُأمَرُ بالموت فيذبحُ..
ثم يقال.. يا أهلَ الجنةِ خلودُ فلا موت..
ويا أهلَ النارِ خلودُ فلا موت..
إن في ذكر الآخرة حسرة.. بل حسرات..
تجلت في العديد من الآيات المحكمات..
*
وأنذرهم يوم الحسرة..
الحسرةُ على الأعمال الصالحة..
التي شابتها الشوائبُ وكدرتها مُبطلاتُ الأعمالِ من رياءٍ وعُجبٍ ومنةٍ..
كان الأمل بعد اللهِ عليها.. ولكنها ذهبت في ذلك اليومِ العصيب..
فضاعت وصارت هباءً منثورا..
في وقتٍ يكون فيه الإنسانُ أشدُ ما يكونُ إلى حسنةٍ واحدةٍ..
إلى من تعدى حدودَ اللهِ في من ظلم في مالٍ أو دمٍ أو عرض..
فيأخذُ هذا من حسناتِه وهذا من حسناته..
ثم تفنى الحسنات فيطرحُ عليه من سيئاتِ من ظلمهم ثم يطرحُ في النار..
(… وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) الزمر/47
(وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) الزمر/48
*
الحسرةُ على التفريطِ في طاعةِ الله..
وينقضي العمرِ القصيرِ في اللهثِ وراء الدنيا حلالِها وحرامِها..
والاغترارِ بزيفِها مع نسيانِ الآخرةِ وأهوالِها..
(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ) الزمر/56
(أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) الزمر/58
يا ضيعة العمرِ لا الماضي انتفعت به *** ولا حصلت على علم من الباقي
بلى علمتُ وقد أيقنتُ وا أسفَا *** أني لكل الذي قدمته لاقي
*
الحسرةُ على التفريطِ في النفسِ والأهل..
(… قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) الزمر/15
يوم تَفقِدَهم وتَخسَرَهم مع نفسك..
ذلك هو الخزيُ والخسارة والحسرةُ..
بعضي على بعضي يجردُ سيفَهُ *** والسهم مني نحو صدري يرسلُ
النار توقد في خيام عشيرتي *** وأنا الذي يا للمصيبة أُشعِلُ
*
حسرةُ جُلساءِ أهلِ السوء..
يومَ انساقوا معهم يقودونَهم إلى الرذيلةِ..
إنها لحسرةُ عظيمةٌ في يومِ الحسرة يعبرون عنها بعضِ الأيدي..
يومَ لا ينفعُ عض الأيدي..
( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ) الفرقان/28
(يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ) الفرقان/28
*
حسرةُ الأتباع المقلدين للظالمين..
يوم يتبرأ منهم من تبعوهم بالباطل..
فلا ينفعهم ندم ولا حسرة..
(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ) البقرة/166
(…كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) البقرة/167
*
حسرة الظالمين المفسدين في الأرض..
الذينَ يصدون عن سبيلِ الله..
حين يحملون أوزارَهم وأوزار الذين يضلونهم بغيرِ علم..
وحين يسمعون عندها قول الله..
(… فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) الأعراف 44
*
حين يكفر الظالمون بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا محتدين ومتبرئين..
(… حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جميعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُل ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ) الأعراف/38
فيا حسرة للسادة والأعوان الأذلاء في حضرة الرحمان..
فهل تصورتم معي ذلك الجو من الحسرة والخزي والندامة..
المخيمة على المستضعِفين للناس.. المستكبِرين..
أتباع ضعفاء يتهمون زعماءهم بالحيلولة بينهم وبين الإيمان ..
ومستكبرون يقولون لأتباعهم أنتم المجرمون دعوناكم فكنتم مجيبين..
يرجع بعضهم إلى بعض القول..
يلوم بعضهم بعضا..
ويؤنب بعضهم بعضا..
ويلقي بعضهم تبعة ما هم فيه على بعض..
فأي حوار بائس..
علم كل منهم أنه ظالم لنفسه.. مستحق للعذاب.. فندم حين لا ينفع الندم..
حين لا تنفع حسرة ولا ينفع ندم..
*
الحسرةُ على أعمالٍ محدثةٍ استحدثوها..
وعباداتٍ لم يأذن الله بها وأحلوها..
(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) الكهف/103- 104
هؤلاء هم الأخسرون أعمالا..
وهيهات هيهات.. يظنون أنهم يحسنون صنعا..
*
الحسرةُ على أموالٍ جُمعت من وجوه الحرام..
رباً ورشِوةٍ وغشٍ وسرقةٍ واحتيالٍ..
فأي حسرةٍ أكبر على امرئٍ يؤتيه اللهُ مالاً في الدنيا..
فيورثه هذا المال جهنمَ وبئس المصير..
أي حسرة أكبر على امرئ يرى عبدا له في الدنيا..
أفضل عند الله منه هو في الآخرة..
أي حسرة أكبر على امرئ أن يرى أعمى في الدنيا قد صار بصيرا..
في حين غدا هو فاقدا للبصر والبصيرة..
أي حسرة أكبر على امرئ علم علما ثم ضيعه ولم يعمل به فشقيَ به..
*
عندما يرى أهلَ النار أهلَ الجنةِ وقد فازوا برضوانِ الله والنعيم المقيم وهم يقولون..
(…ِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُم أََنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظّالِمِينَ) الأعراف/44
يومَ ينادي أهلُ النار أهل الجنةِ..
(… أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافرِينَ ) الأعراف/50
حين ينادي أهلُ النارِ مالكاً خازن النار..
(وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ) الزخرف/77
حين ينادون..
(رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ) المؤمنون/107
فيُجبَهم عز وجل بعد مـدة..
(… اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) المؤمنون/ 108
يوم لا تنفع حسرات ولا تأوهات ولا زفرات..
أن تدع الذي يفنى لما هو باقي..
وأن تغتنم حياتك قبل موتك والآتي..
أن تغتنم ما أنت فيه من مهلة من أعمار وثواني..
أن تتحسر حين لا ينفع ندم ولا حسرات..