– لا أريد أن أعيش معك.. إنك تحجر نفسك في سجن حزنك وهمومك بينما الناس من حولك يتمتعون بحياة أخرى.. حياة كلها سعادة وفرح!!
بهذه الكلمات يا دكتور ودعتني ابنتي أمل.. رمتها علي وسط ذهولي وشقت طريقها إلى حياة أخرى مع شاب تعتزم أنه صديقها الحميم..
-ألم تحاول البحث عنها؟
– لم أحاول؟! بل إنني لم أترك شبراً واحداً إلا وبحثت فيه.. حتى مراكز الشرطة التي لم أكن أقترب منها دخلتها!! بحثت عنها في المشافي.. سألت عنها عند أقاربنا وصديقاتها اللاتي كنت أسمع عنهن.. خمسة أشهر يا دكتور وأنا أبحث عنها..
-خمسة أشهر!.. وهل هي كافية؟؟
– لا أدري..
– مهما بحثت عنها يا عمّاه فلا تفقد الأمل في الحياة.. إن كانت ابنتك قد هربت فلابد وأن هناك حكمة من هروبها..
– حكمة؟! وأي حكمة هذه!! أعيش في ألم وأتجرع الحزن مرات ومرات وتقول لي حكمة!!
– قلت لك.. لا تفقد الأمل.. وردد دائماً، "لعل الله يُحدِث بعد ذلك أمراً" فربما يكون هروبها باب خير لك، فتحه الله عليك.. فلا ترد الخير يا عمي..
– أي خير يا بني.. إنك لا تعرف أمل.. ما زلت أذكر ذلك اليوم.. يوم أن وُلِدت أمل.. ويم أن رحلت عن الدنيا أم أمل لتُخرِج للدنيا أمل.. مازلت أذكر وجه زوجتي وهي تعتصر الألم وتبتسم في وجهي مدارية آلامها خلف تلك الابتسامة.. لقد قالوا لي أن نزيفاً شديداً أصابها ولم يكن لديهم المخزون الكافي من فئة دمها.. فدمها نادر جداً.. وصدقوا!.. فمن النادر أن تجد امرأة مثل أم أمل.. ياااااااااه.. كم هو مؤلم أن تكون مشتت المشاعر.. كم هو مؤلم أن لا تعرف كيف توجه قلبك وعاطفتك.. أن تفرح أم تحزن..
عندما سمعت أول صرخة من صرخات أمل، فرحت حتى أن الدنيا لم تسعني على رحابتها.. وعندما استقام صوت مؤشر جهاز القلب ضاق فؤادي على رحابة الدنيا!! احتضنت زوجتي.. حرّكت كتفيها.. ناديتها.. وكررت النداء.. لكنها لم تجب.. وأبعدوني عنها..
لم أعد أُدرِك ما الذي يحصل أمامي.. فقد غامت الدنيا من حولي.. أرى أناساً في كل مكان.. أجهزة لم أرها في حياتي من قبل.. ضربات كهربائية للقلب.. ومع كل ضربة أرهِفُ السمع.. ولكن، لا أمــــل.. أو بالأصح لك يكن لي أمل سوى في ابنتي..
كنت لها الأب والأم والأسرة بكاملها.. تركت كل سفريات عملي لأبقى إلى جوارها.. أسكنْتُ أمي معي لترعى أمل رغم كبر سنها.. لم أحبذ يوماً أن آتي لها بزوجة أب رغم أن الكثير نصحوني بالزواج.. لم أشأ أن أُسكِنها مع أختي وصغارها، فلا يطيب لي عيش إلا برؤيتها.. وآثرت سعادتها على سعادتي.. جعلتها تدرس في أحسن مدارس المدينة.. لم أبخل عليها بشيء.. واليوم هي تكافئني!!
– ألم تلاحظ سوء سلوكها في البداية؟؟
– بلى.. فقبل سنة تقريباً بدأت أراها تهمل ما تطلبه منها جدتها.. نهرتها.. لكنها كانت دائماً ترضيني بكلامها الساحر.. وشيئاً فشيئاً بدأت ألاحظ خروجها بحجة الاستذكار عند صديقاتها.. لم أكن أستطيع منعها من أي شيء.. اقترحت عليها أن تأتي بصديقاتها إلى منزلنا، فكان جوابها أنهن كثيرات وقد يزعجن جدتها!! إلى أن أرسلت لي المدرسة خطاباً بريدياً يشكون فيه أمل.. ذهبت إلى مديرة مدرستها فأخبرتني أن أمل أصبحت سيئة الخلق وتفتعل المشاكل مع الجميع بعد أن كانت مثالية المدرسة لخمسة سنوات متتالية إضافة إلى أنها لم تحضر لأكثر من أسبوع!!
ثم كان اليوم المشؤوم في حياتي.. انتظرت عودتها إلى ما بعد منتصف الليل.. كانت بكامل وعيها ورائحة كريهة كرائحة السجائر تنبع منها!!.. لم تلقِ نظرة واحدة علي.. بل اتجهت إلى حجرتها مباشرة.. تبعتها وأمسكتها.. كنا وجهاً لوجه.. لأول مرة أشعر بأنها ليست ابنتي.. ومع أنها لم تتعد السادسة عشرة إلا أن وجهها يحمل كل هموم الدنيا على الرغم من تلك الأصباغ والألوان الصارخة التي تطبعها على وجهها..
كانت قد خططت لما ستقوم به.. تركتني وذهبت تجمع ملابسها.. حاولت أن أكون هادئاً.. لكنها كانت تحدثني وكأنني لست بوالدها!.. وعلا صوتي عليها لأول مرة.. لأجدها تلقي بقنابلها علي..كانت كوحش كاسر.. اختفت عنها تلك البراءة التي كانت تضيء وجهها الحسن.. لم أصدق أنها صغيرتي أمل..
أمسكت بذراعيها حاولت منعها من الخروج.. لكن سيارة ما كانت تنتظرها.. خرج منها شاب أذاقني لكمات من يده القوية بينما صغيرتي تنظر إلي بسرور واحتقار.. ثم رحلوا.. وتركوني وسط ذهولي.. ألم أقل لك.. إنها لم تكن صغيرتي أمل.. فقد انطفأ الأمل..
– وما الذي أنت عازم عليه يا عماه..
– سأرحل من هنا.. لقد بعت كل ممتلكاتي وأراضي.. سأجمع رحالي غداً.. سأغادر إلى أرض أخرى.. لأكون بالقرب من أناس يدافعون عن دينهم ووطنهم.. فربما يقبلني المولى شهيداً.. فهذا خير لي..
ابنة الرجل.. صدى
9-11-2017
الأحد: 15 رمضان 1443هـ
لحظــــــــــة..
كتبت هذه القصة بعد أن قرأت في إحدى الصحف خبراً يحكي مأساة أب..
أحزنتني حالته.. لكن صاحب الخبر كان فقيراً.. وهنا جعلت الأب غنياً..
ترى هل هناك فرق في عاطفة الأبوة والأمومة؟ الجواب بالتأكيد: لا..
بانتظار نقدكم البنـــــــّاء..