سنبحر معاً اليوم في عالم المثل القرآني.. و ياله من عالم و يالها من آيات بها من العبر ما لا يعد و لايحصى, عبر خالدة لا تموت ما بقيت الأرض و السموات, عبر جديدة متجددة لا يصيبها القدم أو تندثر من على ألسنة الشعوب لا تبلى ولا تنسى.. نعم أخياتي ذلك هو شأن المثل في القرآن الكريم.. فهيا معاً في هذه الإطلالة الموجزة على هذا الموضوع المهم في علوم القرآن.
لماذا المثل؟
و الجواب بكل بساطة: لأننا نحن _الناس_ من جبلتنا أن نعتمد على تجارب من سبقنا قبل تجربة كل جديد و نرى ما فعل من قبلنا لنصل لما نريد و نتجنب ما لا نريد.. وتكون تلك التجارب مثلاً لنا يفرض حكم العقل علينا أخذ العظة و العبرة منه وسيكون تركه مجازفة يتحمل المرء عواقبها لوحده.. أضف لذلك أن ذكر المثل يضيف على كلام المتكلم مصداقية تجعل من حولك يعلمون أن كلامك نابع عن تجربة مما يدفعهم لتصديق أفكارك .. و لما كان القرآن الكريم يخاطب الناس بما يفهمون
وبالأسلوب الذي جروا عليه في أحاديثهم و أخبارهم, كانت الأمثال في هذا الكتاب العزيز وسيلة تكشف للناس العبر بسهولة ويسر, و طريقة لربط الماضي بالحاضر لأخذ العبرة و العظة, ذات أهداف تربوية لا غنى عنها للمؤمنين في شتى مناحي حياتهم.
ما هو المثل؟
أما في القرآن الكريم: فهو إبراز المعنى في صورة حسية موجزة تكسبه روعة وجمالاً وتوصله للسامع بسهوله و يسر نظراً لما له من وقع في النفس.
أنواع الأمثال في القرآن الكريم:
كقوله تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ) سورة البقرة, آية 17
وكقوله عزمن قائل: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) سورة النحل,آية 92
و في كتاب (المدهش) لابن الجوزي نعثر على إضاءات رائعة لهذا الصنف من الأمثال, اخترت لكن بعضها:
قولهم:القتل أنفى للقتل, مذكور في قوله تعالى:(وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)سورة البقرة,آية 179
وقولهم: ما راءٍ كمن سمع, مذكور في قوله تعالى:(قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) سورة البقرة, آية 260
وقولهم خير الأمور أوسطها, مذكور في قوله تعالى: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً) سورة الإسراء, آية 29
و غيرها الكثير من الآيات.
قوله تعالى: (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) سورة هود, آية 81
و قوله تعالى: (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) سورة الإسراء, آية 84
وقوله تعالى: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى)سورة الحشر, آية 14
و غيرها الكثير مما لا مجال لحصره في هذا المقام.. ولكن يجدر بنا الإشارة هنا إلى أن
به بل ليتدبر فيه ونعمل بأحكامه, فيما أجازه آخرون شرط أن يكون في مقام الجدّ, لا في الهزل والمزاح
خصائص ومزايا أمثال القرآن:
* ايجاز في المثل مما يزيد في بلاغته ورقيه في مخاطبة السامع وهذه من صور بلاغة القرآن التي لا حصر لها, ومنها قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ) سورة النور, آية 39
الحكمة من ضرب الأمثال:
وهي تسهل وصول الفكرة لعامة الناس مهما كان علمهم ولذلك قال تعالى الناس و لم يخص بها احداً بعينه, فالمثل يفهمه الكبير والصغير والعالم والأميّ, فيالها من رحمة أوسعها الله علينا وتفضل كي نكون أقدر على فهم بيان كتابه العزيز عظم من كتاب.
*وبإيضاح الأمثال للحق فهي تهدي أقواماً و يضل بها أقوام آخرون, كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهَُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقِينَ) سورة البقرة, آية 26
* الترغيب والترهيب,
ففي الترغيب قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) سورة البقرة, آية 261
وفي الترهيب قوله عزمن قائل: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)
سورة النحل,آية 112
المدح والتنفير,
و في التنفير قول ربّ العزة: (وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) سورةالحجرات,آية 12
كلمات قرأتها لكن من عالم المثل قرآني:
يقول الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله: سبحان الله، في النفس: كِبر إبليس وحسد قابيل وعتو عاد وطغيان ثمود وجرأة نمرود واستطالة فرعون، وبغي قارون، وقحة هامان وهوى بلعام وحيل أصحاب السبت، وتمرد الوليد، وجهل أبي جهل. وفيها من أخلاق البهائم: حرص الغراب، وشره الكلب، ورعونة الطاووس، ودناءة الجعل، وعقوق الضب، وحقد الجمل، ووثوب الفهد، وصولة الأسد، وفسوق الفأرة، وخبث الحية، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثعلب، وخفة الفراش، ونوم الضبع. غير أن الرياضة والمجاهدة تذهب ذلك.
يقول ابن عبد ربه في القعد الفريد: الأمثال التي هي وشي الكلام وجوهر اللفظ وحلى المعاني والتي تخيرتها العرب وقدمتها العجم ونطق بها في كل زمان وعلى كل لسان فهي أبقى من الشعر وأشرف من الخطابة لم يسر شيء مسيرها ولا عم عمومها حتى قيل: أسير من مثل.
دراسات في علوم القرآن الكريم للرومي.
أنوار البيان للشنقيطي.
كتاب المدهش لابن الجوزي.
اللطائف لابن القيم.
العقد الفريد لابن عبد ربه.